كفايةٌ في السببِ الشرعيِّ؛ فحينَما طلَبَ الصحابة بمكَّةَ إلى النَّبيِّ ﷺ قتالَ المشرِكِين، أمَرَهُم بالعفوِ والكَفِّ، والكف والعفوُ عندَ الضَّعفِ مع التربُّصِ والإعدادِ: مِن سُنَن اللهِ في خَلقهِ كونًا وشرعًا.
طبائعُ النفوسِ، وأثَرُها على اختيارِ الحقِّ:
وقد يكونُ في بعضِ النفوسِ شجاعةٌ وإقدام تُخالِف الأمرَ الشرعيَّ، فيجبُ على أصحابِها مُجاهَدةُ أنفسِهِمْ للنزولِ لحكْم اللهِ؛ فطبائعُ النفوسِ تُؤثِّرُ في قناعاتِها؛ فمَن جَبَلَه اللهُ على الشجاعة، يظنُّ الإقدامَ هو الحق، ومَن جَبلَهُ اللهُ جَبَانًا، يظُنُّ أن الركونَ والسلامةَ هي الحق، وقد لا يُوافِقُ الحقُّ الطبعَ؛ فيجب على الشجاعِ مجاهَدةُ نفسِهِ لَيرجِعَ إذا أمَرَهُ اللهُ بالرجوعِ، ويجبُ على الجبانِ مجاهَدةُ نفسِه ليُقدِمَ إذا أمَرَهُ اللهُ بالإقدامِ، وطبائعُ النفوسِ بلاءٌ تُبتلَى به تحتاجُ معه إلى مجاهَدةٍ، وبمقدارِ قوةِ إيمانِ العبدِ وتسليمِهِ للهِ يكونُ وقوفُهُ عندَ أوامرِ الله ومجاهدتُهُ لنفسِه، وإذا ضعُفَ إيمانُ الإنسانِ، عَمِلَ الشيءَ بما يُشبعُ طَبعَهُ وهواهُ وَيظُنُّ أنَّه لله، فعمرُ بنُ الخطَّابِ جُبِلَ شجاعًا؛ فكان جهادُهُ لنفسِهِ في الإحجامِ أكثَرَ مِن الإقدام، فكان وَقَّافًا على أمر اللهِ؛ لقوةِ إيمانِهِ يَغلبُ قوةَ طبعه، وهذا كما أنَّه في القتالِ والجهاد، فكذلك طبائعُ النفوسِ في السَّرَفِ في الإنفاقِ والبخلِ؛ فمَن جُبِلَ باذلًا ولا يَحسُبُ، يُؤمَرُ بمُجاهَدةِ نفسِه حتَّى لا يُسرِفَ، ومَن جُبِلَ بخيلًا يُؤمَرُ بمجاهَدةِ النفسِ بالبَذْلِ؛ حتَّى يَعدِلَ المُسْرِفُ والمُمْسِكُ وَفقَ أمرِ الله، لا وَفْقَ كلِّ واحدٍ وما يَهوَاه.
والنفوسُ المطبوعةُ على شيءٍ إنْ كانت عالِمةً بالأدلة، تَحفَظُ وتَجمَعُ مِن الأدلَّةِ ما يُوافِق هواها ولا تَشعرُ، وتتغافَلُ عن نصوص تُخالِفُ طَبعَها، فتجدُ الشجاعَ يَحفَظ أدلةَ الإقدامِ وتَلتقِطها نفسه ولا يشعُرُ وتغفُلُ عما يُخالِفُها، ومِثلهُ الجبانُ يَحفَظ أدلةَ السلامةِ وتَلتقِطُها نفسُه ولا يشعُرُ وتغفُلُ عما يُخالِفُها ولو سَمِعَتهُ مِرارًا.