للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قاصِدِينَ الاعتداءَ وقد بَيَّنُوه؛ لاحتمالِ مُبادَرَتِهم ومُباغَتَتِهم للمسلِمينَ بالعُدْوانِ، فكان الواجبُ عدمَ التفريقِ بين أحوالِهم؛ صيانةً للمسلِمِينَ وحفظًا لدمائِهم.

وقولُه: ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾؛ أيْ: أخرِجُوهم مِن بَلَدِهم مَكَّةَ كما أخرَجُوكم منها، وفيه المعاقَبةُ بالمِثْلِ، وفيه أنَّ بَلَدَ المسلِمِينَ التي يُخرَجونَ منها لا تَسقُطُ عن كَوْنِها حقًّا لهم ولو تباعَدَ الزَّمَنُ، وأنَّ الوعدَ بإعادتِها ينبغي أنْ يكونَ حاضرًا متى ما تهيَّأتِ الأسبابُ للأُمَّةِ.

وقولُه تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾:

الفتنةُ هي الاضطرابُ وتغيُّرُ الحالِ؛ هذا أصلُ معناها، ثمَّ إنَّها تُطلَقُ على كلِّ قولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ أدَّى إلى الاضطرابِ في حالِ الفردِ أو الأُمَّةِ؛ فالمالُ والوَلَدُ والجاهُ، والكَذِبُ والغِيبةُ والنَّمِيمةُ والحَرْبُ: فِتْنةٌ تؤدِّي إلى الاضطرابِ، والفتنةُ تكونُ دقيقةً، وتكونُ عظيمةً.

أعظمُ أنواعِ الفتنةِ:

والفتنةُ المقصودةُ في الآيةِ "الكُفْرُ"، وهي أعظمُ أنواعِ الفِتْنةِ، وكلُّ فتنةٍ فهي دونَها؛ فسَّرَهُ بهذا عامَّةُ السَّلَفِ؛ كابنِ عبَّاسٍ ومجاهِدٍ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وعِكْرِمةَ والحسَنِ وقتادةَ والضحَّاكِ والرَّبيعِ بنِ أنَسٍ (١).

وقد جاءتِ "الفِتْنةُ" في الآية بالألفِ واللامِ، وهي للجِنْسِ، فتدُلُّ على الاستغراقِ؛ أيْ: أنَّ الفتنةَ المقصودةَ في الآيةِ أعظَمُ الفِتَنِ؛ وذلك أنَّ المسلِمِينَ يظنُّونَ أنَّ القتالَ في مَكَّةَ وحَرَمِها مِن الفتنةِ، فبَيَّنَ اللهُ ما هو أعظَمُ منها، وهو كفرُ من يُقاتِلُونَهم، والكفرُ فِتْنةٌ أعظَمُ من فتنةِ قتالِهم، بل لو تُرِكُوا بسببِ فِتْنةِ القتالِ، لكان ذلك إقرارًا لهم على كُفْرِهم، والحقُّ أنَّ الفتنةَ العُليا، وهي الكفرُ، تُدفَعُ بالفتنةِ الدُّنيا، وهي القتلُ.


(١) ينظر: "تفسير الطبري" (٣/ ٢٩٣ - ٢٩٥)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (١/ ٣٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>