فالإذنُ إنَّما رُبِطَ بالإمامِ لأنَّه يَعرِفُ مواضعَ الثغورِ، وأَزْمِنةَ الغَزْوِ، والفاضلَ مِن المفضولِ مِنها، وأماكنَ الحاجةِ، وقُوَّةَ العدوِّ وضَعْفَهُ، وإذا كان الإمامُ لا يُؤمِنُ بشِرْعةِ الجهادِ، فلا تُشرَعُ له لوازِمُهُ.
وإذا تعدَّدتْ بُلْدانُ الإسلامِ، فلكُلِّ بَلَدٍ إمامُهُ؛ يُقِيمُ جهادَهُ، ويَرفَعُ لواءَهُ، وله حقوقُهُ ولوازِمُه، وعليه تَبِعَاتُه، ولا يُطلَبُ مِن إمامٍ إذنٌ لجهادٍ في غيرِ وِلَايتِه؛ لأنَّ إذنَهُ حقٌّ له فيما تقَعُ عليه يدُه، فهو يُبصِرُ مصلحتَه، ويَرَى مفسدتَه، ولغيرِهِ على أرضِه يدٌ، وله عَيْنٌ، يُبصِرُ ما لا يُبصِرُهُ غيرُه، ويَشْهَدُ ما لا يَشْهَدُه.
وقد قاتَلَ أبو بَصِيرٍ بمَنْ معَهُ المشرِكِينَ، وتربَّصَ بِعِيرِهِمْ وقَوَافِلِهم، فلم يكُنْ تحتَ رايةِ النبيِّ ﷺ؛ لأنَّه لم يكنْ في أرضِهِ ولا تحتَ أمرِهِ سياسةً، وإنْ كان تحتَ أمرِه شِرْعةً، فلم يأمُرْهُ النبيُّ ﷺ ولم يَنْهَهُ، بل مدَحَهُ وقال:(مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ)(١)، ولم يطلُبْ هو مِن النبيِّ ﷺ إذنًا مع نزولِ الوحيِ وعِصْمةِ المُوحَى إليه.
شروطُ جهاد الدفعِ:
وأمَّا جهادُ الدفعِ، فليس له شرطٌ؛ فإذا دهَمَ العَدُوُّ بَلَدًا، وجَبَ على أهلِها الدفعُ عن حِمَاهُم؛ كلٌّ بما يستطِيعُهُ، جماعةً أو فُرادى، رجالًا أو نساءً، وإنْ تعذَّرَ اجتماعُهُمْ، فيسقُطُ شرطُ الاجتماعِ، فيقاتِلُونَ فُرادى، وإنْ تعذَّرَ الإمامُ، فيقاتِلُونَ بلا إمامٍ.
وهؤلاءِ المَلَأُ مِن بني إسرائيلَ إنَّما طلَبُوا مِن نبيِّهم مَلِكًا يقاتِلُونَ معه، وجهادُهُمْ جهادُ دفعٍ، كما في قولِه: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾؛ لأنَّهم أُخرِجُوا مِنْ أَرْضِهم، فلم
(١) أخرجه البخاري (٢٧٣١) (٣/ ١٩٧)، وانظر: ابن هشام في "السيرة" (٢/ ٣٢٤).