للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان الصحابةُ - عليهم رِضوانُ اللهِ - يَنْهَوْنَ عن نِفاقِ السُّلْطانِ، ومَن عَجَزَ عن النُّصْحِ فلا يُجالِسْ؛ حتى لا يكونَ شريكًا في خديعةِ السُّلْطانِ والرعيَّة، وقد روى نافعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَر قَالَ لِقَوْمِ يَأْتُونَ السُّلْطَانَ: مَاذَا رَأَيْتُمْ مِنْ مُنْكَرِ مِنْهُ غَيَّرْتُمُوهُ، أَوْ مِنْ مَعْرُوفٍ أَمَرْتُمُوهُ بِهِ؟ قَالُوا: لا، وَلكن إِذَا قَالَ شَيْئًا، قُلْنَا: صَدَقَ، وَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِه، قُلْنَا مَا نَعْلَمُ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا، أَوْ مِنَ النِّفَاقِ (١).

تدبُّرُ القرآنِ وأثَرُهُ على النفاقِ:

ثمَّ بيَّنَ اللهُ بعدَ ذلك سبَبَ ضَلالِ المُنافِقِينَ وانحرافِهِمْ، وأنَّه بسببِ عدمِ تدبُّرِهِمْ للقرآنِ؛ فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: ٨٢]، والمُنافِقُ لضعفِ تصديقِهِ لا يتدبَّرُ القرآنَ ولا يتأمَّلُهُ؛ بل يأخُذُهُ على ظاهرِهِ ولا يَنْشَطُ لِمَعَانِيهِ وحِكَمِه وعِلَلِه، والمُنافِقونَ على مَرَاتِبَ؛ فبحسَبِ قوةِ نِفاقِهِمْ وضعفِهِ تكونُ قوةُ أخذِهِمْ للحقِّ مِن صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجِّ وذِكْرٍ؛ بل حتى شربُ زمزمَ لا يتضلَّعُونَ منه؛ لضَعْفِ اليقينِ بما جاء بالوحيِ عنه، وإنْ زاد النِّفاقُ وضعُفَ اليقينُ، ضعُف الأخذُ حتى يكونَ التركُ التامُّ مع انعدامِ اليقين، واختلافُ الإنسانِ في ظاهرِهِ وعَلَانِيَتِهِ بمقدارِ يقينِهِ ونِفاقِه؛ حتى يستويَ عندَ تامِّ اليقينِ والتصديقِ الغيبُ والشهادةُ، والسِّرُّ والعلانيةُ، ورؤيةُ الناسِ وعدمُهم؛ لأنَّ المراقبةَ للهِ لا لهم، وهذا الإحسانُ، والإحسانُ نفسُهُ يَضْعُفُ ويَقْوَى.

وقولُه تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}؛ يعني: أنَّهم يُعْلِنُونَ أخبارَ الأُمَّةِ وأسرارَها، ولا يُفرِّقونَ بينَ ما يُعلَنُ وما لا يُعلَنُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يهتمُّ بأمرِ نفسِهِ لِيُصلِحَها، فهمُّهُ سلامتُها وغُنْمُها، ولا يَعنِيهِ أمرُ الأُمَّةِ المنوطُ بأُولي الأمرِ العارِفينَ بمصالحِها، وهم العلماءُ.


(١) أخرجه البزار في "مسنده" (٥٨٦٨) (١٢/ ١٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>