والأظهَرُ: أن ما جاءَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ محمولٌ على حق الآدميِّ الذي يكونُ فيه القِصاصُ في الآخِرةِ بالحسَناتِ والسيئات، وما كان مِن أدلَّةِ توبةِ القاتلِ - كحديتِ الإسرائيليِّ - محمولٌ على حق اللهِ الذي يُسقِطُهُ اللهُ بالتوبةِ في الدُّنيا، وأمَّا حق الآدمي فبِعَفوِه، ولكنَّه لم يَعفُ؛ لفوتِهِ بموتِه، ومَن عفا اللَه عنه يَرحَمُهُ اللهُ بإكرامِ المقتولِ بخيرٍ ممَّا يَرجُوهُ مِن قاتلِهِ من عندِه، وَيرحَمُ القاتِلَ بتوبته.
ولكن لمَّا كان القتلُ عظيمًا، فلِعظمَتِه يَستوجب توبةً تُناسِبُ عظمَتَهُ؛ مِن الإنابةِ والندم، والطاعةِ والخشية، لا تُدركُها النفوسُ الضعيفة التي تتَواكَلُ على قليلِ الطاعةِ أنْ يَمحُوَ كبيرَ المعصية، وإن تابَتْ، تابَتْ مِن غيرِ إقبالٍ ولا تعظيمِ للذنب وعاقِبتِه.
وعندَ عدَمِ توبةِ القاتلِ، أو عدمِ قَبُولِها، يكون حقًّا للمقتولِ على القاتلِ أن يَأخُذَ مِن حسناتِهِ بقَدرِ مَظْلِمتِه، فإن كان عملهُ قليلًا فيأخُذُهُ كلَّه إلا التوحيدَ؛ لأنه لا يَأخُذُ التوحيدَ ويُزيلُهُ إلا الكفرُ، وتَبقى سيِّئاتُه، فإن عفا اللهُ عنه فبِها؛ وإلا دخلَ النارَ.
ما ورَدَ في كفرِ القاتِلِ:
وأمَّا ما رُوِيَ في كفرِ القاتلِ، وحَمْلُ بعضِهم عدَمَ قَبولِ توبةِ القاتلِ بسبب كفرِه؛ فذلكَ لا يصحُّ، وقد روى فيه ابنُ عَدي حديثًا مِن حديثِ زيدِ بنِ جَبِيرَةَ، عن داودَ، عن نافعٍ، عنِ ابنِ عمرَ، مرفوعًا:(مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتعَمِّدًا، فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ)(١)، وهو منكَرٌ جِدًّا، وزيدٌ منكَرُ الحديثِ.
ولا يَلزَم مِن قولِ ابنِ عباسٍ بعدمِ قَبولِ توبتِهِ أنَّه عنده كافرٌ، ولم يقُلْ بهذا أحدٌ مِن أهلِ السنَّةِ إلَّا مَن استحَلَّ الحرامَ، وحالُ القتلِ في رأيِ ابنِ عبَّاسٍ كحالِ الذنوبِ التي يتَقاضاها الناسُ بينهم يومَ القيامةِ