والمُباهَلةُ معروفةٌ في كثيرٍ مِن الشرائعِ، ومنها النصرانيَّةُ، يَتباهَلُونَ على الأمورِ العظيمةِ عندَ الاختلافِ عليها، وفي "الصحيحِ"، عن حُذيفةَ؛ قال: جاءَ العاقِبُ والسيِّدُ، صاحِبَا نَجْرَانَ، إلى رسولِ اللهِ ﷺ يُريدانِ أنْ يُلاعِناهُ، قال: فقال أحدُهما لصاحِبِه: لا تفعَلْ؛ فواللهِ لئنْ كان نبيًّا، فلاعَنَنَا لا نُفلِحُ نحن ولا عَقِبُنا مِن بَعْدِنا، قالا: إنَّا نُعطِيكَ ما سألْتَنا، وابعَثْ معنا رجُلًا أمينًا, ولا تبعَثْ معنا إلا أمينًا، فقال:(لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أمِينٍ)، فاسْتشرَفَ له أصحاب رسولِ اللهِ ﷺ، فقال:(قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدةَ بنَ الجَرَّاحِ)، فلمّا قام، قال رسولُ اللهِ ﷺ:(هَذَا أمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ)(١).
وأثرُ المُباهَلةِ عظيمٌ على المتباهِلِينَ في الدِّينِ والدُّنيا؛ ولهذا لا تُشرَعُ إلا في أمرٍ عظيمٍ مقطوعٍ به، ولا يجوزُ التباهُلُ في الظنيَّاتِ، ولا التباهُلُ في القطعيَّاتِ التي لا أثَرَ على المتباهِلِينَ ومَن وراءَهم فيها، فبعضُ التباهُلِ يُرفَعُ مِن شوكةِ مغمورٍ على باطلٍ، فإذا باهَلَ، ظنَّه الناسُ صادقًا فتأثَّرُوا بثباتِهِ، وهو مجازفٌ باعَ دِينَهُ بهَوَاهُ؛ ولهذا يَشتهِرُ عندَ العلماءِ مقارعةُ الخصومِ بالحُجَجِ والبيِّناتِ، وإبطالُ ضَلالِهم بالدليلِ البيَّنِ، ويندُرُ فيهم المُباهَلةُ مع خصومِهم كالصحابةِ ممَّن أدرَكُوا أهلَ البدعِ كالقَدَرِيَّةِ والمُرْجِئَةِ، والتابعِينَ وأتباعِهم ممَّن أدرَكَ الرافِضةَ والجهميَّةَ والزنادِقَةَ، وغيرِهم كالأئمَّةِ الأربعةِ وأئمَّةِ السُّنَّةِ والحديثِ.
مشروعيَّةُ المباهَلَةِ، والمقصُودُ منها:
وإذا قام سببُها في أمرٍ قطعيٍّ عظيمٍ مِن شخصٍ فَتَنَ الناسَ بقولِهِ وفِعْلِه، حتى ظنُّوا ثباتَهُ، وشَكَّ أهلُ الحقِّ في حقِّهم الذي هم عليه؛ فيُشرَعُ لأهلِ الحقِّ المُباهَلةُ لِيتحقَّقَ في ذلك المقصودُ مِن المُباهَلةِ، وهو: