للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثانيةُ: التفاضُلُ بينَ إقامةِ الحدِّ وطلبِ السَّتْرِ والتوبة، وقد اختلَفَ العلماءُ فِيمَنْ أصاب حَدًّا: هل الأفضلُ في حقِّه السَّتْرُ على نفسِه، والتوبةُ مِن ذنبِه، أو عرضُ نفسِهِ ليُقامَ عليه الحدُّ؟

وممّا لا يَختلِفونَ فيه: أنَّ من أصاب حقًّا مِن حقوقِ العِبادِ في مالٍ أنه يجبُ إعادتَهُ إلى أهلِه، وأنَّ التوبةَ لا تكفي في زوالِ الحقوق، وكذلك في الدماءِ فيجبُ فيها القِصاصُ، أوِ الاستحلالُ.

وأمَّا الحدودُ التي هي مِن حقِّ الله، فإنْ بلَغَتِ السُّلْطانَ، وجَبَ إقامتُها، ولا يجوزُ له إسقاطُها لتوبةِ المذنبِ؛ لأنَّها حقٌّ لله يجبُ أن يُقام أوجَبَهُ اللهُ لحِكْمةٍ في صالحِ العِباد، وأمَّا ما لم يَبلُغِ السُّلْطانَ، ففي التفاضل بينَ التوبةِ والحدودِ خلافٌ، والأصحُّ: فضلُ الاستتارِ بالذنب، والإقلاعِ عنه، والإكثارِ مِن التوبةِ والاستغفار، وإتباعِهِ بالعملِ الصالحِ؛ فإنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيِّئاتِ.

سَتْرُ أصحابِ الذنوبِ:

ولم يثبُتْ عن النبيِّ أنَّه أمَرَ الناسَ أو أحدًا بعينِهِ أنْ يُبدِيَ ما استتَرَ مِن ذنوبِهِ ليُقِيمَ عليهم الحدَّ، بل الثابتُ عكسُ ذلك، وهو الأمرُ بالاستتارِ والتوبة، والإعراضُ عن المُقِرِّ على نفسِهِ بالذنبِ الذي يُوجِبُ حدًّا حتى يُعِيدَ عليه، وفي مسلم؛ أنَّ النبيَّ قال لماعزٍ لمَّا أقَرَّ بالزِّنى على نفسِه: (وَيُحَك؛ ارْجِعْ فاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ) (١).

وقد قال أبو موسى الأشعريُّ: "كُنَّا -أصْحَابَ مُحَمَّدٍ- نَتَحَدَّثُ لَوْ أنَّ مَاعِزًا أَو هَذِهِ المَرْأَةَ لَمْ يَجِيئَا فِي الرَّابِعَة، لَمْ يَطْلُبْهُمَا رَسُولُ الله "؛ رواهُ الحاكمُ (٢).


(١) أخرجه مسلم (١٦٩٥) (٣/ ١٣٢١).
(٢) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٤/ ٣٨٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>