مقابلِ الحُجَّة، وكلَّما كانتِ الحُجَّةُ في وجهِ الحقِّ ضعيفةً، سَتَرَتْ خلفَها كِبْرًا ونِفاقًا؛ لأنَّ النفوسَ لا تتشوَّفُ إلى المعارضةِ بلا سببٍ، فتُبدِي حُجَجًا واهيةً، وأعذارًا ضعيفةً؛ وهي في باطنِها مُعانِدةُ.
ولم يكُنِ المنافِقونَ يُعارِضونَ أمرَ النبيِّ ﷺ في الجهادِ؛ وإنَّما يَعتَذِرُونَ بأعذارٍ ضعيفةٍ؛ ففي غزوةِ أُحُدٍ قالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾، وفي تَبُوكَ قالوا: ﴿لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ [التوبة: ٨١]، وفيها قال الجَدُّ بنُ قَيْسٍ: ﴿ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩].
في أُحُدٍ لم يُظهِرُوا الامتناعَ مِن القتالِ؛ وإنَّما لا يظُنُّونَ وقوعَ القتالِ؛ فلا يرَوْنَ خروجَهم بلا فائدةٍ تتحقَّقُ، وفي تَبُوكَ لم يُظهِرُوا الامتناعَ مِن الجهادِ؛ وإنَّما خشيةَ الحَرِّ وحالُهم لو كان بَرْدًا لَخَرَجْنا، وفي تَبُوكَ أيضًا لم يُظهِرِ الْجَدُّ بنُ قَيْسٍ الامتناعَ على الجهادِ؛ وإنَّما أظهَرَ خوفَ الفتنةِ على نفسِه، وظاهرُهُ لو لم تكنْ فتنةٌ فهو مقاتِلٌ، وبكثرةِ الأعذارِ لتركِ الحقِّ يَظهَرُ النِّفاقُ.
وهذه الأعذارُ تُخْرِجُهُمْ مِن دائرةِ الكفرِ الظاهرِ إلى النِّفاقِ؛ ولذا قال تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾، فلم يَحْكُمْ بكفرِهم للنبيِّ ﷺ لِيُؤاخِذَهم على الكفرِ؛ وإنَّما حَكَمَ بنفاقِهم؛ لِيُعامِلَهم به؛ ولذا عقَّبَ ذلك بقولِه: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾.
احتواءُ المنافِقينَ:
ومِن فقهِ السياسةِ في جهادِ النبيِّ ﷺ: احتواءُ المنافِقينَ، وإنْ مَكَرُوا وخَدَعُوا وخَانُوا؛ كما فعَلَ ابنُ أُبَيٍّ حيثُ رجَعَ بثُلُثِ الجيش، فلم يُعاقِبْهُمُ النبيُّ ﷺ بعدَ أُحُدٍ؛ وإنَّما جعَلَهم في عِدَادِ الجماعة، وأخَذَهم في جِهَادٍ بعدَ ذلك؛ لأنَّ عَزْلَهُمْ عن الجماعةِ زيادةٌ لشرِّهم وخُبْثِهم؛ فهم