للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، أمَرَ اللهُ بالأكل والشربِ بعدَما أمَرَ بأخذِ الزِّينةِ؛ لأنَّ كفَّارَ قريْشٍ كانت قد بذَلتْ في اللِّباس، فحرَّمتْ على غيرِها وغيرِ حُلَفائِها الطوافَ بغيرِ لِباسِها، وحرَّمت بعضَ الطعامِ؛ فجاءَ الأمرُ مُبطِلًا لفسادِ فِعْلِهم.

الإسرافُ في الطعامِ:

ثم نهَى اللهُ عن الإسراف في الطعام والشراب، وأكَّدَ النهيَ بأنَّه لا يُحبُّ المخالفِينَ لأمرِه، المُسرِفِينَ في المأكلِ والمشربِ.

والسَّرَفُ؛ مُجاوَزةُ الحدِّ المعروفِ في الشيء، ويقرُبُ مِن معناهُ التبذيرُ، وهو: إنفاقُ المالِ في غيرِ حقِّه؛ كما قالهُ الشافعيُّ وغيرُهُ.

حدودُ الإسرافِ الممنوع:

والسَّرَفُ على مَراتبَ، ومنه: ما هو بيِّنٌ ظاهرٌ يَعرِفُهُ العاقلُ صاحبُ الفِطْرةِ، ومنه: ما هو خفيٌّ يشُقُّ على الناسِ دل كثيرٍ من المُتعلِّمينَ معرفتُهُ؛ لأنَّ منه ما يشتبِهُ على فاعلِهِ؛ لاختلافِ أحوالِ الناسِ غِنًى وفقرًا، وأحوالِ الناسِ جِدَةٍ وعدَمًا، واختلافِ مقاصدِ الناسِ مِن الانتفاع، ولا يمكِن معرِفةُ السَّرَفِ المصنوع إلَّا بالنظرِ إلى جهات أربعٍ:

الجهة الأُولى: النظرُ إلى الفاعل، فلا بدَّ مِن معرفةِ غِناهُ وفَقْرِه، ومقدارِ انتِفاعِهِ ممَّا يبذُلُ عليه، فسَرَفُ الغنيِّ غيرُ سَرَفِ الفقير، فالغنيُّ الذي يجدُ طعامَهُ وشرابَه، ولباسَهُ ومَسْكَنَهُ ومَرْكَبَه: لو وضَع مِئَةَ دِينارٍ فيما ينتفع فيه مِن غيرِ ضروريَّاتِه، لم يُعَدَّ مُسرِفًا، ولو أنفَقَ الفقيرُ الذي لا يجدُ ما يستُرُ عورتَهُ ويُشبعُ بطنَهُ دِيارًا في فضولِ الانتفاع، لكان مُسرِفًا، ولو كان عينُ ما اشتراهُ الغنيُّ هو عينَ ما اشتراهُ الفقيرُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>