الحالةُ الثانيةُ: دخولُها لغيرِ ما يُناقِضُ مقاصدَ الشرِّ الذي أُقِيمَتْ له؛ كمَنْ يأتي صروحَ الشِّرْكِ والكفرِ لأمرٍ مباحٍ أو مشروعٍ، لكنَّه مفضولٌ لا فاضلٌ، فهذا الدخولُ لا يجوزُ؛ لأنَّه يَتضمَّنُ تأبيدَ القدوةِ وتشريعَهُ لشرِّ عظيمٍ بإنكارِ ما هو أقلُّ منه؛ كمَن يأتي صروحَ الشِّرْكِ أو الكبائرِ كالزِّنى لِيَتَحَدَّثَ عن فضائلِ الأعمالِ والأقوالِ والآدابِ والسلوكِ والتربية، وبمقدارِ قدوتِهِ في الناسِ وأَثَرِهِ عليهم يكونُ إثمُهُ وتعظُمُ فتنتُه للناس، وكثيرًا ما يَغترُّ بعضُ المُصلِحينَ بما يَقولونَ مِن خيرٍ؛ ويَغْفُلونَ عمَّا يَتْرُكُونَهُ مِن شرٍّ؛ فيَشْغَلُهُمُ المفضولُ عن الفاضلِ مِن الدِّين، فيَفتِنونَ ويُفتَنونَ، فمِن أعظَمِ فتنةِ المُصلِحينَ اختِلالُ مَرَاتبِ الشريعةِ في دَعْوَتِهم.
ومَن دخَلَها مِن سَوَادِ المُسلِمينَ ممَّن لا يُعتَدُّ بقولهِ ولا يُؤْبَهُ له، فإثمُهُ بمقدارِ ما يَلحَقُهُ هو في نفسِه مِن شرِّ منها، وبمقدارِ ما يكثِّرُ به مِن سَوَادِهم، وبحَسَبِ ما يتحقَّقُ له مِن منفعةٍ، وما يَلحَقُه وغيرَهُ مِن مَفسَدةٍ.
تعدُّدُ المساجدِ في الحَيِّ الواحدِ:
ولا يجوزُ بناءُ مسجدٍ مُجاورٍ لمسجدِ الحيِّ؛ ما دامَ الناسُ يَسمَعونَ الأذانَ مِن فوقِ سطحِ المسجدِ بلا مُكبِّراتٍ في زمنِ سكونِ الرِّياح، وبلا ضجيجِ الأسواقِ والطرُقاتِ؛ فإنَّ هذا يفرِّقُ جماعةَ الناس، ويعطِّلُ بعضَ المقاصدِ مِن جَمْعِهم؛ فمِن المقاصدِ تَعَارُفُهم، وأداءُ الحقوقِ بينهم؛ مِن صلاحِ حال، وأمرٍ بمعروفٍ ونهيِ عن منكرٍ، ودفعٍ للبغضاءِ فيما بينَهم؛ فإنَّ الجِيرَانَ لو أهلَ الرَّحِم إنْ تعدَّدَتْ مَساجِدُهم تَهاجَرُوا؛ كلٌّ بمَسجِدِه، ولو جمَعَهُمْ مسجدٌ واحدٌ، تَعارَفوا وتقاربَتْ نُفوسُهم برُؤْيةِ بعضِهم بعضًا، وتَغَافَلَ بعضُهم عن زَلَّةِ بعضٍ، وقد كان بعضُ السلفِ يُسمَّي تعدُّدَ المساجدِ في المكانِ المتقارِبِ والحيِّ الواحدِ بِدْعةً، ويُروى أنَّ أنسَ بنَ مالكٍ لمَّا دخَل البَصْرةَ جعَلَ كلَّما خَطَا خُطْوَتَيْنِ رأى مسجِدًا، فقال: ما