وفي هذه الآيةِ: أن القتالَ في سبيلِ اللهِ إذا دخلَتهُ الدنيا، فسَدَ وأفَسدَ أهلَهُ، فلا يُفسِدُ الجهادَ إلا طمعُ المجاهِدِينَ في الدُّنيا؛ لذا قال الله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾، فتَميلُ نفسُ المجاهدِ إذا طَمِعَ في الدنيا، وتساوَتِ الاحتمالاتُ، إلى ترجيحِ أحَدِ الاحتمالَينِ وهو الذي يَهواهُ لدنياه، فيُفسدُ الدِّينَ والدنيا، وهنا يتشوَّفُ إلى عدمِ إسلامِ الخَصْمِ عندَ اشتباهِ أمرِه؛ لاغتنامِ مالِه، وكَسبِ سُلطانِه.
وقوله: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أمرٌ خفيٌّ لا يَعلمُهُ إلَّا اللهُ، وهو على درجاتٍ في نفوسِ مَن قاتَلَ في سبيلِ الله، وبمقداره لا يؤتِي الجهادُ ثِمَارَه، وأخرَجَ ابنُ أبي شَيبةَ وأحمدُ وابنُ المُنذِر، عن ابنِ مسعودٍ؛ قال:"إنَّ النساءَ كُنَّ يومَ أحُدٍ خلفَ المسلِمينَ يُجْهِزْنَ على جَرحَى المشرِكينَ، فلو حلَفتُ يومئذٍ رجَوتُ أن أبَرّ أنَّه ليس أحد منَّا يُريدُ الدُّنْيا، حتَّى أنزَلَ اللهُ: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران: ١٥٢](١) ".
والدُّنيا - ولو كانَت قليلةً - تحجب الإنسانَ عن رؤيةِ الآخرة، فالدِّينارُ مِنَ الذهَبِ لو قَرَّبَتهُ العينُ منها، لم ترَ جبلَ الذَّهَب، فالدنيا ليست بحَجمِها؛ وإنَّما بقُربِها، فمَنِ انتفَعَ بها وأبعَدَها، لم تَضُرَّه ولو كانت كثيرةً، ومَن قرَّبَها، أعمَتهُ ولو كانت قليلةً.
وأنْقَى الناسِ أنقاهُم مِن الدُّنيا، لأنها تحجُبُ القلبَ عن رؤيةِ الحقِّ، وَيختلِفُ أثرُ الدنيا بحسَبِ منازِلِ أصحابِها؛ فالدنيا في قلبِ
(١) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٣٦٧٨٣) (٧/ ٣٧١)، وأحمد في "مسنده" (٤٤١٤) (١/ ٤٦٣)، وابن المنذر في "تفسيره" (٢/ ٤٤٥).