للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال لهما نحوَ ما لي حديثِ أمِّ سَلَمةَ، ثمَّ ترَكَ كلُّ واحدٍ حقَّه لصاحِبِهِ باكيًا، قال: (أمَا إِذْ قُلْتُمَا، فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا، ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ لْيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ)؛ أخرَجَهُ أحمدُ وأبو داودَ (١).

وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ التفصيلُ في ذلك عندَ قولِهِ تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} [١٨٨].

حكمُ القاضِي بعلمِهِ:

وفي قولِه تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} عدمُ جوازِ حُكمِ الحاكمِ بعِلْمِه؛ وإنَّما يأخُذُ بحكمِ اللهِ الذي يقصي بالنتيجة، أو بحكمِ اللهِ الذي هو أدواتُ الوصولِ إلى الحقِّ، ولو خالَفَ ما يَعْلَمُهُ بنَفْسِه مِن الحقِّ، وإنَّما منَعَ اللهُ مِن حُكْمِ الحاكمِ بعِلْمِه؛ لئلَّا يكونَ ذلك ذريعةً إلى أخذِ الحقوقِ ببُرْهانٍ غائبٍ، فيُؤدِّيَ إلى فسادِ دُنيا الناسِ بفسادِ قُضَاتِهم، فبقَعُ الظُّلْمُ، وتُؤكَلُ الحقوقُ، ويُحالُ إلى برهانٍ ودليلٍ لا يَعْلَمُهُ إلَّا الحاكمُ، فيقعُ الحُكمُ بالهوى.

ثمَّ إنَّ في حكمِ الحاكم بعِلْمِه - ولو كان يقينًا - تُهَمةً له وسهولةً للوقيعةِ في عِرضِه، والطَّعْنِ في دينِهِ وَأمانتِهِ؛ فالناسُ يَجحَدونَ الحقوقَ وعليها بيِّناتٌ شاهدةٌ، ويتَّهِمونَ القُضاةَ بالمَيْلِ لِخُصُومِهم ومعَهم بيِّناتٌ؛ فكيف والبيِّناتُ غيرُ ظاهرةٍ لا يعلَمُها إلَّا الحاكمُ بها؟ ! فإنَّ هذا يفتَحُ بابًا عريضًا لتُهَمةِ الحُكَّامِ والقضاة، فصانَ اللهُ عِرْضَهم وبرَّأَ ذمَّتَهم يأمْرِهم ألَّا يَحْكُموا بعِلْمِهم.

وإنَّما نهى اللهُ نبيَّه عن ذلك مع عَدْلِهِ وعِصْمَتِه؛ لأنَّه مشرِّعٌ لأمِّتِهِ وقدوةٌ لِمَن بعدَهُ مِن الحُكَّامِ والقضاة، فجرى عليه ما يَجري عليهم؛ حتَّى لا يستَنَّ به مُبطِلٌ، ويَظُنَّ أنَّه مِثلُه.


(١) أخرجه أحمد (٢٦٧١٧) (٦/ ٣٢٠)، وأبو داود (٣٥٨٤) (٣/ ٣٠١).

<<  <  ج: ص:  >  >>