للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد صالَحَ الخلفاءُ الراشدونَ ومَن بعدَهم، وما زال حُكْمُ المُسالَمةِ والمُهادَنةِ قائمًا في الأُمَّةِ مع الكافرينَ بحسَبِ مصالحِ المُسلِمين.

وإنما الخلافُ في بعضِ فروعِ المُسالَمةِ والمُهادَنةِ؛ كمُدَّتها، وأحوالِها، ودفعِ المالِ إلى الكفارِ كفايةَ لشرِّهم، ونحوِ ذلك.

السَّلْمُ مع المُشركينَ:

لا يختلِفُ العُلَماءُ: أنَّ السَّلْمَ إذا كان دائمًا مع جميعِ الأعداءِ والجهات، وإلى الأبدِ وبلا أَمَدٍ: أنه لا يجوزُ؛ لأنَّه يتضمَّنُ تعطيلًا للجهاد، وقد تواتَرَ الدليلُ على دَيمُومتِهِ وبقائهِ إلى قِيام الساعة، وقد قال ابنُ المُنذِرِ: "ولا يجوزُ أنْ يُصالِحَهم إلى غيرِ مُدَّةٍ؛ لأنَّ في ذلك تَرْكَ قِتالِ المُشرِكينَ، وذلك غيرُ جائزٍ" (١).

ولأنَّ ذلك يتضمَّنُ قَطْعًا ذلَّةً وهوانًا للمُسلِمينَ؛ فلا يُتصوَّرُ عدمُ وجودِ عُدْوانٍ مِن جميع البشرِ وجميع الأُممِ والدُّوَلِ على المسلِمينَ، ولا يُتصوَّرُ ألا تَبقَى أمَّةَ ودَوْلة ولو كانتْ كافِرةً بلا عُدْوانٍ لأحدٍ عليها؛ وهذا مع عدمِ صِحَّتِه عقلًا، فهو منُاقضٌ لصريحِ الوحي، وتشريعِ السماء، وعملِ النبيِّ والخلفاء، فاللهُ يقولُ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣، والأنفال ٣٩]، والفِتْنةُ الكُفْرُ، ولا يَزالُ الكفرُ في الأرضِ باقيًا، فيجب أنْ تبَقَى معه شريعةُ الجهادِ قائمةً، ولا يُمكِنُ أنْ تكونَ الأمَّةُ ظاهرةً إلَّا بجهادِها، وفي "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ مُعاويةَ (٢)، والمُغيرةِ (٣)، يقولُ النبيُّ : (لَا تَزَالُ طَائِفَة مِن أمَّتِي قَائِمَةً بِأمْرِ الله، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَو خَالَفَهُمْ، حَتَّى يأْتِيَ أمْرًا للهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى


(١) "الإقناع" لابن المنذر (٢/ ٤٩٨).
(٢) أخرجه البخاري (٧١)، ومسلم (١٠٣٧).
(٣) أخرجه البخاري (٣٦٤٠)، ومسلم (١٩٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>