والبُلْدَانُ مهما عَظُمَت تشريفًا لا تَمنَع أصحابَها مِن الظُّلمِ فيها، والتعظيمُ للبلدِ يكون إمَّا لِذاتِها، وإمَّا لأهلِها، وتعظيمُ البُلدانِ لأجلِ فضلِ أهلِها وعَمَلِهِم أعظَمُ مِن فضلِ البُلدانِ لِذَاتِها؛ فمكةُ أفضَلُ مِن المدينةِ في قولِ جمهورِ العلماءُ، ومع ذلك أمَرَ اللهُ بالهجرةِ مِن مكَّةَ مع فضلِها؛ بسببِ ظُلمِ أهلِها، إلى المدينةِ وهي مفضولةٌ؛ بسببِ فضلِ أهلِها وعملِهم.
الهجرةُ وحكمُهَا:
وفي قوله: ﴿أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ وجوبُ الهجرةِ من بلدِ الكُفْرِ إلى بلدِ الإسلامِ، وعدمُ جوازِ الإقامةِ في بلدِ الكُفرِ إلَّا للطَّرِيدِ الفارِّ بدينِهِ مِن مِثلِها، كما هاجَرَ أهلً مكَّةَ إلى الحبشةِ بدِينِهم وأنفُسِهم؛ فيجوزُ للمسلِمِ أن يَفِرَّ بدِينهِ ولو إلى بلدِ كفرٍ.
لكنْ لا يجوزُ لمسلم أن ينويَ الإقامةَ فيه بلا تربُّصٍ بالرجعَةِ عندَ وجودِ مكانٍ آمِنٍ يُقِيمُ دِينَه في بلدٍ مسلمٍ؛ فإنَّ الخِلطَةَ بأهلِ البلدانِ تُؤَثِّرُ في الفِطَر، وتنقلُ الطبائعَ، وتجعَلُ النفوسَ تَقْرِنُ بينَ ما لا يُقرَنُ مِن الطبائع والأخلاقِ وبين الدِّينِ؛ فإنِ استحسَنُوا الطبائعَ والعيشَ، استحسنوا الدِّينَ، فإن لم يَتأثَّرِ الرَّجُلُ بنفسِه، تأثَّرَتْ ذُريَّتُه، فإنْ سلِمَ الآباءُ، لم يَسْلَمِ الأولادُ، وإنْ سَلِمَ الأولادُ، لم يَسلَمِ الأحفادُ، وكثيرٌ في بُلدانِ الغربِ اليومَ في أوروبا وأمريكا وجود نَصَارَى مِن آباءٍ أو أجدادٍ مُسلِمِينَ، رأوْا أنَّهم يَحفَظُونَ دِينَهم، وغاب عنهم ضياعُ دينِ أولادِهم وأحفادِهم.
الهجرةُ إلى بلدِ الكفرِ وحدودُهُ:
والمرادُ بالظُّلْمِ في الآيةِ: الكفرُ والشركُ، وإذا أطلق الظلمُ في القرآنِ، فيُرادُ به الكفرُ، ومَن قُهِرَ في نفسِهِ ومالِهِ في بلدٍ مسلمٍ لا يجوز