وقد جاءتْ أدلةٌ كثيرةٌ بجوازِ الأكلِ في أواني المشركِينَ والشربِ منها، وكثيرٌ منها جلودٌ، وذبائحُ المشركينَ مَيْتةٌ إلا أهلَ الكتابِ، ولم يثبُتْ عن النبيِّ ﷺ أنَّه أمَرَ أصحابَهُ إذا سافَروا إلى بلدانِهم أنْ يَحْذَرُوا مِن أوانِيهم، ولم يأتِ تحذيرٌ مِن لُبْسِ الخِفَافِ التي لا تُعرَفُ حالُها، وهي مِن الجلودِ، والحاجةُ ماسَّةٌ لبيانِ ذلك.
وقد دخَلَ النبيُّ مكةَ وأهلُها مشرِكُونَ، وأصحابُهُ تفرَّقُوا في الناسِ، وللمهاجِرِينَ أرحامٌ وأقوامٌ دخَلُوا بيوتَهُمْ، ولم يَرِدْ نصٌّ في هذا البابِ، ولو كان، لَنُقِلَ؛ لأنَّه يَلْزَمُ منه القولُ على مِنْبَرٍ أو في مشهدٍ؛ لأنَّه ما مِن أحدٍ إلا ويُبتلى بجلودِ الميتةِ لُبْسًا أو فَرْشًا أو أَكْلًا أو شُرْبًا.
الثالثُ: يطهُرُ ظاهرُ الجلدِ بالدبغِ؛ لأنَّه يتصلَّبُ ولا يتحلَّلُ فيه ما يجاوِرُهُ، وأمَّا باطنُهُ، فلا يطهُرُ بالدبغِ؛ وهو قولُ مالكٍ، ولذا منَعَ بهذا التعليلِ استعمالَ جلدِ الميتةِ المدبوغِ في شربِ الماءِ، ومنَعَ مِن الصلاةِ عليه.
وقد حكَى ابنُ وَهْبٍ، عن مالكٍ؛ أنَّه سُئل هل يصلَّى في جلدِ الميتةِ إذا دُبِغَ؟ فقال:"لا، وقال: إنَّما أُذِنَ في الاستمتاعِ به، ولا أرَى أن يصلَّى فيه"(١).
حكمُ لحمِ الخنْزِيرِ:
والخِنْزيرُ محرَّمٌ بذاتِه، ونَجِسٌ بعَيْنِه؛ ولذا غايَرَ عندَ ذِكْرِه بقولِه: ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾، ولم يذكُرِ اللحمَ في المَيْتةِ؛ لبيانِ أنَّ المحرَّمَ في الخنزيرِ لحمُهُ ولو كان مذبوحًا، وأنَّ الحيوانَ قُصِدَ وصفُهُ بالميتِ؛ لِيَدُلَّ على أنَّ أصْلَهُ الحِلُّ، إلا ما كان على هذا الوصفِ، وهو الميتةُ.