لقَدِّرِها، وكثيرًا ما يتراخى السُّلْطانُ فيترُكُ الشرورَ لفِتَنِ متوهَّمةٍ، ويُقدِمُ أهلُ الغَيرةِ والحميَّةِ على دفعِ شرٍّ بقُدْرةٍ متوهَّمةٍ وفتنةٍ لاحقةٍ متحقِّقةٍ أعظَمَ، وهذا بابٌ يمضى فيه بتجرُّدِ وعِلمٍ، فلا يكفي فيه التجرُّدُ بلا عِلْمٍ، ولا يكفي فيه العِلْمُ بلا تجرُّدٍ.
دُخُولُ صُرُوحِ الشَّرِّ والفِتْنةِ:
أمَرَ اللهُ نبيَّه ﷺ بهَجْرِ مسجدِ الضِّرَارِ وعدمِ القيامِ فيه بقولِه، ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾؛ وذلك لأنَّ مقامَ القدوةِ يَختلِفُ عن مقامِ غبرِه، فتوجَّهَ الخطابُ إلى النبيِّ ﷺ مِن دونِ المؤمنينَ؛ لأنَّهم له تَبَعٌ، ثُمَّ قامَ النبيُّ ﷺ بهَدْمِه؛ وبذلك يُستأصَلُ شرُّه، ويتحقَّقُ كمالُ الكفايةِ للإسلامِ والمُسلِمينَ منه.
وقد كان النبيُّ ﷺ قبلَ ذلك يَغْشى نَوادِيَ المشرِكينَ وأعبادَهم مُنكِرًا عليهم كُفْرَهم وشِرْكَهم ومُخالفتَهم لأمرِ الله، ولمَّا كان في المدينةِ وقَوِيَ سُلْطانُهُ واشتَدَّ أمرُهُ، نهاهُ اللهُ عن المُقامِ في أماكنِ الشرِّ والفتنةِ؛ كمَسْجدِ الضِّرارِ؛ لاختلافِ الحالَيْنِ؛ حالِ القُدْرة، وحالِ العَجْز، وكلُّ صرحٍ للشِّرْكِ والفسقِ يدخُلُ في هذا الحُكْم، ومنها غِشْيانُ المَنابرِ الإعلاميَّةِ والمَحَافِلِ العامَّةِ والنوادي والمَجامِعِ؛ فإنه في حالِ العجزِ عن إزالتِها، فإنَّ دخولَها وغِشْيانَها على حالَتَيْنِ:
الحالةُ الأُولى: دخولُها للقيامِ بنقيضِ مقاصدِ الشرِّ الذي أُقيمَت له، فإذا كان المكانُ وُصِعَ للشِّرْك، فيَجِبُ عندَ دخولِهِ قصدُ النهي عن الشِّرْكِ؛ لأنَّ دخولَ القدوةِ لها بما يُخالِفُ هذا القصدَ الذي أُقِيمَت لَه يُعَدُّ تشريعًا، ويُعَدُّ سكوتُهُ تأبيدًا لها.
وقد كان النبيُّ ﷺ يَغشى نواديَ قريشٍ وقبائلِ العرب، فيَأْمُرُهم بالتوحيدِ وينهاهُم عن الشِّرْك، ويأمُرُ بأصولِ الفِطْرةِ العظيمة، ويَنهاهُم