للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكمُ القتالِ في الحَرَمِ:

وقولُه: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}:

وهذه الآيةُ معطوفةٌ على الأمرِ بقتالِ المشرِكِينَ حيثُ ثَقِفُوهم؛ وذلك أنَّ اللهَ أمَرَ بقَتْلِهم في كلِّ موضعٍ، ولمَّا كان للحَرَمِ منزِلةٌ تختلِفُ عن غيرِه، احتاجَ للاستثناءِ المقيَّدِ بكونِهم يُقاتِلونَ المسلِمينَ عندَهُ، فجعَلَ اللهُ غايةَ النهيِ بقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}.

وذلك لِحُرْمةِ المسجدِ الحرامِ، فإذا خرَمَ حُرْمةَ المسجدِ الحرامِ، فهو مستحِقٌّ للعقوبةِ والتأديبِ؛ لكُفْرِهِ إنْ كان كافرًا، ولاستحلالِهِ حُرْمةَ المسجِدِ الحرامِ أيًّا كان؛ مؤمِنًا أو كافرًا.

واللهُ جعلَ المسجدَ الحرامَ حرامًا؛ لنِسْبَتِهِ إليه؛ فهو حرَمُ اللهِ وبيتُهُ، وكلُّ صَدٍّ عن العبادةِ فيه واستحلالٍ للقتالِ على ذلك: إفقادٌ لأصلِ تلك الحُرْمةِ ونزعٌ لها.

وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ من العلماءِ: أنَّ لِمَكَّةَ حُرْمةً لا بدّ أنْ يَلِيَها مُسلِمٌ، ومجرَّدُ وِلِايةِ الكافرِ عليها مُبيحٌ لقتالِهِ، ولو لم يقاتِلْ؛ لأنَّ وجودَهُ فيها محرَّمٌ، ولو لم يَمْنَعِ المسلِمينَ مِن دخولِها حَجًّا وعُمْرةً؛ حكى الإجماعَ القُرْطُبيُّ عنِ ابنِ خُوَيْزِمَنْدَادَ (١).

وقال: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}؛ أيْ: هذا حُكْمُهم الأصليُّ لو لم يَلُوذُوا بالحرَمِ، ولكنْ لمَّا قاتَلُوكم عندَهُ، كانت هذه الحالُ لاحِقةً بجَزَائِهم الأصليِّ، وهو وجوبُ القتالِ.

ومَن لاذَ بمكَّةَ ممَّن أصابَ حَدًّا، أو كان فارًّا بحقٍّ، أو عدوًّا


(١) "تفسير القرطبي" (٣/ ٢٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>