للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أفعالَ المُنافِقينَ تُفهَمُ بسِيَاقَاتِها لا بذاتِها، فمَنْ نظَرَ إلى بعضِها بذاتِه، استحسَنَها واغتَرَّ بها، وزعَمَ الجاهلُ توبتَهُمْ وصلاحَ أمرِهم؛ وهذا ظاهرٌ في الآيةِ.

وفيما سبَقَ لمَّا بيَّنَ اللهُ لنبيِّه أنَّهم لو خرَجُوا للجهادِ - وهو عملٌ عظيمٌ صالحٌ - لَأَفْسَدُوا فيه؛ كما قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: ٤٧]، ثم قال مبيِّنًا دليلًا ظاهرًا للحُكْمِ عليهم: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} [التوبة: ٤٨]، فسِيرتُهُمُ السابقةُ بتقليبِ الأمورِ وقصدِ الفتنةِ حَرِيَّةٌ أنْ تَجْعَلَهم بَعِيدينَ عن فِعْلِ الخيرِ بِنِيَّةِ صادقةٍ، بل لغاياتِ شرٍّ وفتنةٍ.

تأكيدُ المُنافِقينَ أفعالَهُمُ الصالِحةَ بالأَيمَانِ:

وفي قولِه تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أنَّ كثرةَ الأَيْمَانِ لتأكيدِ الأفعالِ الصالحةِ مِن علامةِ المُنافِقينَ؛ لأنَّ المؤمِنَ تَكْفِيهِ سِيرَتُهُ السابِقةُ وظاهرُ فعلِه لإحسانِ المؤمنينَ الظَّنَّ به، وإنِ احتاجَ إلى اليمينِ فعِنْدَ الحاجةِ إليها في الأمورِ المشتبِهة، لا الأمورِ البيِّنةِ؛ فبناءُ المساجدِ لا يَحْتاجُ إلى يمينٍ مِن مؤمِنٍ لِبَيَانِ حُسْنِ قصدِه، ولكنَّ المنافِقَ يَعلَمُ مُناقَضةَ باطِنهِ لظاهِرِه، فيُكثِرُ الأَيْمانَ لتسكينِ ما يَعلَمُهُ مِن نَفْسِهِ ويَعتقِدُ اطِّلاعَ الناسِ عليه، والمنافِقُ تَعجِزُ أفعالُهُ عن الإقناعِ فيُؤكِّدُها بأَيْمانِه.

قولُهُ تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} بَنَى المُنافِقونَ مسجِدَ الضِّرَارِ قريبًا مِن مسجدِ قُبَاءٍ؛ ليكونَ مِثلَهُ في القصدِ والبُعْدِ عن مسجدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُتَّهَمُوا بقُرْبِهِ مِن مسجدِهِ فيُهدَمَ؛ فإنَّ حالَهُ كحالِ قُبَاءٍ، ويَظُنُّونَ أنَّ حُكمَهُ كحُكمِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>