ومنها: أنَّهم يُريدونَ الانفِرادَ بالمؤمِنِينَ، فيَجلِسونَ إليهم، ويُحدِّثونَ بما يُريدونَ مِن الهوى والفتنة، ولا يَسْمَعُهُمْ أحدٌ كالنبيِّ ﷺ وخيارِ الصحابةِ وكبارِهم؛ لأنَّهم لن يتَخلَّفُوا عن الصلاةِ في مسجدِ النبيِّ ﷺ، وقد كان للمُنافِقينَ وَجَاهَةٌ وظهورٌ أولَ الأمر، يَقُومُونَ ويتَحدَّثونَ ويُسمَعُ لهم قبلَ انكشافِ أمرِهم؛ كما كانا لِعَبدِ اللهِ بنِ أُبَيِّ مقامٌ في مسجدِ النبيِّ ﷺ يَخطُبُ فيه يومَ الجُمُعةِ قبلَ غزوةٍ أُحُدٍ، ويُذكِّرُ الناسَ ويَحُثُّهم على الاقتداءِ برسولِ اللهِ ﷺ واتِّباعِه.
ومنها: أنَّهم يُريدونَ أن تكونَ لهم يدٌ عُلْيا على الإسلامِ وأهلِه، فيَثِقُ الناسُ بهم، ويقومونَ بقيادتِهم في مصالحِهم الأُخرى، وإذا قالوا، سُمِعَ لهم، يطمَعونُ في العلوِّ على الإسلامِ والهَيْمَنَةِ عليه بواسطةِ تشييدِ صُروحِه.
وهذا إذا كان في مَساجِدَ ظاهرةٍ وهي بيوتُ الله، فكيف مَكرُهم بما هو دُونَ ذلك مِن خِدْمةِ العِلم ونشرِ الخيرِ وتشييدِ وَسَائِلِ الإعلامِ وغيرِ ذلك، ممَّا هوأكثَرُ خَفاءً وأشدُّ لبسًا على المُسلِمينَ؟ !
قولُه تعالى: ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾، فيه: أنَّ اللهَ دلَّلَ للنبيِّ والمؤمنينَ على سُوءِ قَصْدِ المُنافِقينَ بما سلَفَ مِن أفعالِهم وقُرْبِهم ممَّن يُحارِبُ اللهَ ورسولَه، وكانوا على قُرْبٍ ومودَّةٍ مِن أبي عامرٍ الراهب النَّصْرانيِّ عدوِّ النبيِّ ﷺ وأصحابِهِ؛ قال ابنُ عبَّاسِ ومجاهِدٌ وعُرْوةُ بن الزُّبَيْرِ وغيرُهم بأنَّه المقصودُ بقولِه: ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ (١).
وفي هذا: أنه مِن العقلِ والحِكْمةِ سَبْرُ الأحوالِ السابقةِ للناسِ قبلَ الحُكْمِ على فعلٍ ظاهرٍ فعَلُوه، وعدَمُ فصلِ ما سبَقَ منهم عمَّا لَحِقَ؛ فإنَّ
(١) "تفسير الطبري" (١١/ ٦٧٦ - ٦٧٧)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٦/ ١٨٨٠).