للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إخفاءُ الطاعاتِ وإعلانُها:

والأصلُ في الفرائضِ في الدِّينِ: الأعلانُ، وأنَّه أفضلُ مِن الإسرارِ، وقد حكى الإجماعَ على هذا ابنُ جريرٍ، إلا الزكاةَ (١)؛ ففيها خلافٌ عندَ السلفِ؛ وذلك لأنَّ الفرضَ يحتاجُ إلى التواصي وعدَمِ التواكُلِ، ولكونِها شعائِرَ دينيَّةً تحتاجُ إلى إظهارِها ليَقتدِيَ بذلك الناسُ، ولا يَجِدَ ضعيفُ الإيمانِ والمنافِقُ بابًا للخروجِ عن أدائِها بدعوى الإسرارِ، وحتَّى لا يُحسَنَ الظنُّ بصاحبِ السُّوءِ، فتتعطَّلَ بذلك مَقاصِدُ الشريعةِ.

والأحاديثُ كثيرةٌ في فضلِ إخفاءِ النوافلِ صَدَقةً وصلاةً وغيرَها، ومِن السَّبْعَةِ الذين يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ: (رَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ)؛ كما جاء في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ في "الصحيحَيْنِ" (٢)؛ ولذا كانت نافِلةُ الليلِ أعظَمَ مِن نافلةِ النهارِ؛ لخفائِها والخَلْوةِ فيها، وأعظَمُ ما ينفي النِّفاقَ، ويدفَعُ الرِّياءَ: عبادةُ السِّرِّ.

وإذا قامتْ مصلحةُ التعليمِ وحَضِّ الناسِ، فلا حرَجَ مِن إعلانِ العملِ الصالِحِ ولو كان نفلًا؛ كما في حديثِ المنذِرِ بنِ جرِيرٍ، عن أبيهِ؛ قال: "جاءَ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ؛ لِمَا رَأى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ وَأقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، وَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةِ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ


(١) "تفسير الطبري" (٥/ ١٧).
(٢) أخرجه البخاري (٦٦٠) (١/ ١٣٣)، ومسلم (١٠٣١) (٢/ ٧١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>