للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرَّحْمةُ بالأَسْرَى وعدَمُ تعذيبِهِمْ:

والأصلُ: أنه لا يجوزُ تعذيبُ الأسيرِ ولو كان قبلَ أَسْرِهِ عدوًّا مُثخِنًا مُصِيبًا في المُسلِمينَ؛ لأنَّ جوازَ ضَرْبِهِ كيفَما اتَّفَقَ عندَ اللِّقاءِ, وفي ساحةِ القتالِ - شيءٌ وحُكْمَ التعامُلِ معه بعدَ أَسْرِه - شيءٌ آخَرُ؛ على ما تقدَّمَ ذِكرُهُ عندَ قولِه تعالى: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: ١٢].

وقرَنَ اللهُ الإحسانَ إلى الأسيرِ بإطعامِ المِسْكِينِ واليتيم مِن المُسلِمينَ؛ كما قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ٨ - ٩]، وقد قال أبو عُبَيْدٍ: "أَثْنَى اللهُ على مَن أحسَنَ إلى أَسِيرِ المُشْرِكينَ" (١)؛ لأنَّ اللهَ يَجعَلُ في النفوسِ أجرًا ولو كانتْ كافرةً، وقد كان النبيُّ يأمُرُ بإطعامِ الأَسْرَى وكِسْوَتِهم؛ ففي السِّيَرِ: أنَّ ثُمَامَةَ بنَ أُثَالٍ الحَنَفِيَّ قد أُسِرَ، فأَمَرَ النبيُّ بالإحسانِ إليه، ثم رجَعَ إلى أهلِه، فقال: (اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ، فَابْعَثُوا إلَيْهِ)، وأمَرَ بلِقْحَتِهِ أنْ يُغدَى عليه بها ويُراحَ (٢).

وقد كَسَا عمَّه العبَّاسَ بقميصٍ لمَّا وجَدَهُ عاريًا؛ كما في "الصَّحيحِ"؛ مِن حديثِ جابرٍ (٣)، وبوَّبَ البخاريُّ عليه بابًا سمَّاه: "باب الكِسْوَةِ للأُسَارَى"، وقد كسَا النبيُّ ابنةَ حاتمٍ الطائيِّ وأطلَقَها (٤).

ولم يثبُتْ أنَّ النبيَّ أو أحدًا مِن خلفائِهِ وأصحابِهِ عَذَّبَ أسيرًا لفِعْلٍ فعَلَهُ قبلَ أَسْرِه، معَ كثرةِ الأَسْرى وتمرُّدِ قومِهم وشدَّةِ كُفْرِهم


(١) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (١١/ ٣٩٦).
(٢) "سيرة ابن هشام" (٢/ ٦٣٨).
(٣) أخرجه البخاري (٣٠٠٨).
(٤) "سيرة ابن هشام" (٢/ ٥٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>