وروى ابنُ المُنذِرِ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مُجاهدٍ؛ في قوله: ﴿فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ﴾: "فِرَقا قليلا"(١).
تعدُّدُ الجيوش في قتالِ الدفعِ:
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على جوازِ تعددِ الجيوش الجماعاتِ والراياتِ في قَتالِ الدَّفْعِ عندَ الحاجةِ إليه وتعذُّرِ الاجتماع؛ لِشدةِ العدُوِّ وقوةِ صَولَتِه، وقد تكونُ الفِرَقُ عندَ دفعِ صولةِ العدوِّ أَحفَظَ للدماء، وأَثخَنَ في العدوِّ؛ لمشقةِ اجتماعِ المُسلِمينَ في موضعٍ واحدٍ أو انقيادِهم لأميرٍ واحدٍ، ولكنْ عندَ القُدرةِ تجُب الجماعةُ في كل جهادِ دفع أو طلبٍ؛ لأنَّ الافتِراق يُورِثُ سوءَ الظَّنِّ بينَ جماعاتِ المسلِمِين، فتَظُنُّ كلُّ جماعةٍ: أنَّها الأقوَى والأثخَنُ؛ لأنّها تَرى مُصَابَها ولا ترى مُصَابَ غيرها؛ وتَرى إقدامَها ولا تَرى إقدامَ غيرها، فيظهَرُ لها مِن الأسباب الموجبةِ لرِضاها عن نفسِها وعُذرِها عند تقصيرِها: ما لا تراهُ مِن الأسبابِ في غيرِها، فتتشاحَنُ النفوس وتتقاتَلُ فيما بينها، ويتغلب العدو لشتاتِهِم، وربّما تنازَعُوا على الغنيمةِ والأرضِ واقتَتَلُوا على دنيا، وكل واحدٍ يرى أَنَّه الأحَق، ويُحضِر الشيطانُ في نفس كلِّ طائفةٍ جهدها وجهادَها، وصَبرَها وآلامَها؛ حتى ترى أنَّها الأحَق مِن غيرِها بكلِّ شيءٍ؛ لأنَّها ترى في نفسِها ما لا تراهُ في غيرِها؛ لهذا أمَرَ اللهُ بالجماعةِ في كلِّ حِينٍ، ونَهَى عن الفرقةِ على كل حالِ إلا عندَ الضرورةِ والمصلحة، وهي تقدر بقدرها.
وكانَتْ هذه الآيةُ أولَ الأمرِ في زمنِ الضعف وعدمِ كثرةِ المُسلِمِينَ وقوَّتِهم؛ ولذا قال بعض السلفِ بنسخِها كابنِ عباسٍ؛ كما روى عطاء الخُرَاساني عنه؛ أنَّها نسِختْ بقولِهِ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا