ولم يأمُرِ اللهُ نبيَّه بأخذِ الجِزْيةِ إلَّا متأخِّرًا؛ وذلك بعدَ شدَّةِ التمكُّنِ وظهورِ القُوَّةِ والغَلَبة، وذلك شبيهٌ بأمرِ الأَسْرى، فقد كان اللَّوْمُ في أوَّلِ الأمرِ على فِدَائِهم؛ حتَّى لا يَركَنَ الناسُ إلى الدُّنيا والدَّعَةِ والتلذُّذِ بالعَبِيدِ والإماء والمالِ؛ فلِلدُّنيا طَعْمٌ إنْ بدَأَ بأخذِهِ السالِكونَ ولم يَذُوقُوا أَمْرَ الشِّدَّة، فقد يُصيبُهم الرُّكونُ والوَهْنُ وحبُّ الدُّنيا؛ وهذا مِن أسبابِ تأخيرِ أحذِ الجزبةِ على المؤمِنِينَ، مع أنَّ اللهَ أحَلَّ لهم قبلَ ذلك الغنائمَ والخَرَاجَ، لكن المالَ معَ شِدَّةٍ ليس كالمالِ معَ الراحة، وكثرةُ المالِ ليسَتْ كقِلَّتِه.
ومِن ذلك: أنَّ النبيَّ ﷺ كان مُنشغِلًا باستئصالِ المشرِكينَ بمَكَّةَ، وهم أشَدُّ كفرًا مِن أهلِ الكتاب، وإنزالُ أهلِ الكتابِ على الجِزْيةِ ومنعُ المشرِكِينَ مِن ذلك: يُورِثُهم عِنَادًا فوقَ عِنَادِهم، فيَظُنُّونَ أنه يُرِيدُ بهم استصغارًا واحتقارًا لِمِلَّتِهم، فهم يَزعُمونَ أنَّهم على دِينِ إبراهيمَ وليسوا عليه، فلمَّا ارتفَعَ عامَّةُ الشِّرْكِ مِن جزيرةِ العربِ أو أكثرِها نزَلَتْ آيةُ الجِزْيةِ.