أولًا: الدليلُ، وكلَّما كان العالمُ أكثَرَ استيعابًا للأدلَّة، كان أقرَبَ للصوابِ، ويَقِلُّ صوابُهُ بمقدارِ ضَعْفِهِ في استيعابِ الأدلَّة، فربَّما عرَفَ دليلًا وجَهِلَ ما هو ألصَقُ بالمسألةِ المنظورةِ منه، فيَضعُفُ تنزيلُهُ؛ لبُعْدِ الدليلِ عن النازِلةِ، وبمقدارِ بُعْدِ الدليلِ يكونُ ضعفُ الاستدلالِ.
ثانيًا: النازِلةُ؛ فمَن عرَفَ النازِلةَ وعايَنَها، كان أبصَرَ بها وبالحُكْمِ المُناسِبِ لها، ومَن كان بعيدًا عنها، ضَعُفَ نظرُهُ فيها، وكلَّما كان العالِمُ بالنوازِلِ أعلَمَ، وبالحوادثِ أَخْبَرَ، فهو بمعرِفةِ ما يُناسِبُها مِن الأدلَّةِ أدَقُّ وأصوَبُ، وهذا يكونُ في العلماءِ الذين قرَؤُوا التاريخَ، وخَبَرُوا النوازلَ، وعرَفُوا ما شابَهَها، ويكونُ في الشيوخِ أكثَرَ مِن الشبابِ؛ ولذا قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ:"رأيُ الشيخِ خيرٌ مِن مَشْهَدِ الغلامِ"(١).
وذلك أنَّ الغلامَ قد يشهدُ نازِلةً ولم يَعرِفْ نظيرَها، والشيخُ شَهِدَ نظائرَ أو سَمِعَ بنظائرَ ولو لم يَشْهَدْها، فالعِلْمُ بالخبرِ إذا كَثُرَ كان كالمشاهدةِ وأشَدَّ.
ثالثًا: التعليلُ المشتَرَكُ بينَ النازلةِ ودليلِها المناسِبِ لها؛ فمَنْ لم يَعرِفْ عِلَلَ الحوادث والرابطَ بينَها وبينَ أدلَّةِ النقلِ والعقل، أخطَأَ في تنزيلِ الأدلَّةِ على النوازِلِ، فربَّما الجهلُ بالتعليلِ يُخطِئُ معه العالِمُ في النازلةِ؛ إذْ يكونُ المُناسِبُ لها الشِّدَّةَ فيستعمِلُ اللِّينَ، وربَّما العكسُ.