وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ الأصلَ في كلِّ مسكونٍ ومطعومٍ وملبوسٍ: الحِلُّ، وإنَّما خَصَّ الأكلَ بالذِّكْرِ؛ لأنَّه أظهرُ النِّعمِ وأولُ أسبابِ البقاءِ في الأرضِ، وكلُّ نعمةٍ تأتي بعدَه، وهو أولُ المِنَنِ التي بيَّنَها اللهُ لآدمَ، فقال: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾ [طه: ١١٨]، وأولُ واجباتٍ على السلطانِ لرعيَّتِهِ. كفايتُهم الطعامَ، وكفايتُهم اللباسَ.
والإنسانُ لا يستطيعُ العيشَ أيَّامًا متتابعةً بلا أكلٍ، بينَما يعيشُ سِنِينَ بلا مَلْبَسٍ ولا مَسْكَنٍ ولا مَنْكَحٍ؛ ولذا يَزْهَدُ الإنسانُ بمسكنِهِ وملبسِهِ ليأكُلَ؛ دفعًا لزوالِه، فإذا جَفَّتِ الأرضُ وأجْدَبتْ، وحُبِسَ القَطْرُ، ارتَحَلَ وترَكَ دارَهُ ومسكنَهُ ليسكُنَ في بلدٍ يأكُلُ فيها ويَشْرَبُ؛ ولذا فاللهُ وصَفَ الأكلَ بالطيِّبِ في القرآنِ أكثَرَ مِن المَلْبَسِ والمسكنِ والمَنْكَحِ.
وبَيَّنَ اللهُ أنَّ الأصلَ في المأكولِ الحِلُّ؛ حتى لا تَضِيقَ نفسُهُ بالمحرَّمِ المعدودِ؛ فإنَّ عَدَّ المحرَّماتِ مِن غيرِ بيانِ الأصلِ يُدخِلُ في النفسِ التشوُّفَ إليها والتفكُّرَ فيها؛ حتى ينشغِلَ الإنسانُ بها فيَطْمَعَ في أكلِها؛ كما كان ذلك من آدَمَ ﵇: أُحِلَّت له الجنةُ كلُّها شجرًا ونهرًا ولحمًا إلا شَجَرةً واحدةً، فأكثَرَ عليه الشيطانُ التفكُّرَ فيها؛ حتى تشوَّفَتِ النفسُ فأكَلَ، فضاقتْ على آدمَ الجنةُ مع سَعَتِها، واتَّسعَتِ الشجرةُ مع ضِيقِها؛ فكيف، بإبليسَ في دنيا ضيقةٍ، ومحرَّماتٍ عِدَّةٍ؟ !
وإذا كانت نعمةُ الأكلِ هي أعظمَ نِعَمِ البقاءِ للإنسانِ، والأصلُ فيها الحِلَّ، فمِن بابِ أَولى ما كان دُونَها مِن ملبسٍ ومسكنٍ، إلا ما خَصَّهُ الدليلُ بتحريمٍ؛ لعِظَمِ الوقوعِ فيه بلا استباحةٍ؛ كالمَنْكَحِ.