وفي استفهامِ الملائكةِ عن حِكْمةِ الأمرِ: جوازُ سؤالِ المخبَرِ والمأمورِ عن حِكْمةِ ما يخبَرُ أو يؤمَرُ به، وأنَّ ذلك ليس مِن الخروجِ عن الأدبِ، ولا يُنافي تمامَ التسليمِ؛ فاللهُ وصَفَ ملائكتَهُ بقولِهِ: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧].
واستفهامُ المحكومِ عن أمرِ الحاكمِ في أمرٍ يَفعلُهُ فيهم؛ عن حِكْمتِهِ وعلةِ أمرِهِ - جائزٌ، ويجبُ عليه أن يبيِّنَ قَصْدَهُ في ذلك، وهذا عامٌّ في كلِّ آمِرٍ إلا اللهَ ﷾؛ لأنَّه - جلَّ وعلا - لا يُسأَلُ سؤالًا يقتضِي حَتْمَ الجوابِ عليه؛ لأنَّه المعبودُ سبحانَهُ، والسؤالُ يَلزَمُ منه إفادةٌ بعِلْمٍ، وما كلُّ علمٍ تُدْرِكُهُ العقولُ البشريَّةُ؛ لهذا أجمَلَ اللهُ القولَ لملائكتِهِ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وربَّما كانت هناك علومٌ لا تُدرَكُ على وجهِها؛ لِسَعَتِها وضعفِ عقلِ الإنسانِ وإدراكِهِ وضعفِ خِلْقتِهِ؛ فبعضُ العلومِ والمعارفِ الواسعةِ لو قِيلتْ للإنسانِ، أفسَدَتْهُ وحيَّرتْهُ، والعيبُ ليس فيها؛ وإنَّما في قصورِ عقلِهِ عن استيعابِها؛ فعقل الإنسانِ وعاءٌ لا يَحتمِلُ إفاضةَ البحرِ فيه، ولو أفَضْتَهُ فيه، لَفَسَدَ وتاهَ وضاعَ في بحرِ الحَيْرَةِ، كما يضيعُ الإناءُ إذا أُفيضَ البحرُ عليه فينغمِرُ في أعماقِه.
وهذا كما هو في العقولِ، فهو في بنيةِ الإنسانِ وخِلْقَتِه؛ فهذا موسى ﵇ حينَما سأَلَ اللهَ أنْ يراهُ، قال اللهُ له: ﴿لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: ١٤٣].
فإذا كانتِ الأبصارُ لا تستطيعُ استيعابَ كثيرٍ من الحقائق، فكذلك العقولُ، فحَجْبُها عنها أصلَحُ لها حتى يخلُقَها اللهُ على خِلْقةٍ أقوَى منها؛ كحالِ الأبصارِ في الجنةِ حينَ تَرَى اللهَ سبحانَه.
والملائكةُ حينَما سألتِ اللهَ وهي تعلَمُ عن اللهِ ما لا يعلَمُهُ أكثَرُ