الشيطانَ يُحِبُّ أن يتفرَّدَ بأحدٍ ليسوِّلَ له الشرَّ؛ لهذا إذا أعلَنَ الإنسانُ قولًا، ضبَطَ قولَهُ وتهيَّبَ السامِعِينَ؛ وإنْ قَلُّوا، خَفَّ عليه الرقيبُ مِن الناس، فأطلَقَ لسانَهُ ودفَعَهُ الشيطانُ؛ ما لم يَعصِمْهُ اللهُ، والصادق مِن الناسِ مَن يتحدَّثُ مع الواحدِ كما لو تحدَّثَ مع الجماعةِ؛ لأنه يُراقِبُ اللهَ، فيغيبُ حضورُ الخَلقِ مع حُضورِ الخالق، وهذا قليلٌ في الناس، بل حَتَّى الصالحينَ؛ لأثَرِ الشُّهودِ على حواسِّ الإنسانِ.
وهذه الآية تَبَعٌ لقِصَّةِ ابنِ أُبَيْرِقِ سارِقِ الدِّرْع، ومُتَّهِم اليهوديِّ به؛ فقد كان الناس يتَناجَوْنَ في أمرِ السارق والمسروق، والمَتَّهِمِ والبريء، بلا بيِّنة ولا حُجَّةٍ، وإنَّما نهى عنِ النَّجوى ولم يَنْهَ عنِ العَلانيةِ هنا؛ لأنَّ النفوسَ لا تجسُرُ على إعلانِ ما تقوله سرًّا، فنَهى عنِ النَّجوى، وسكَتَ عن العَلانية، لِجُبْنِ النفوسِ عنها؛ لأنَّ الناسَ لا يَقبَلونَ إلَّا البيِّنات، وليس التُّهَمَ والقَذفَ بلا برهانٍ وبيِّنةٍ.
فضلُ صدقةِ السِّرِّ:
وفي قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾، دليلٌ على فضل الإسرارِ بالصَّدَقةِ على غيرِها، وهذا الأصلُ في صَدَقاتِ التطوُّع، وقد تقدَّمَ بيانُ ذلك وتعليلُهُ في سورةِ البقرةِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١].
فسَّرَ بعضُهُمُ المعروفَ في الآيةِ: ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ بالقَرْضِ؛ وذلك لاقتِرانِهِ بأمرِ الصَّدَقة، والصدقةُ أوْلَى بالإسرارِ مِن القرضِ؛ لأنَّ الصَّدَقةَ لا تحتاجُ إلى إشهادٍ، بخلافِ القرضِ فيحتاجُ إلى إشهادٍ؛ لحِفظِ الحقِّ، ولا حرَجَ مِن إظهارِه بِقَدْرٍ يُحفَظ به الحقُّ ولا يضيعُ، ولا تَظهَرُ فيه مِنَّةٌ وأذًى للمقترضِ.
والأصلُ: عمومُ المعروف في الآية، وعدَمُ تقييدِها بنوعٍ مِن