ومِن الحِكمةِ: تقديمُ ما يفرِّطُ فيه الناسُ ويُضيِّعُونَهُ مِن أحكامِ اللهِ ولو كان مفضولًا، على ما يَحفَظُونَهُ وَيَعْمَلُونَ به ولو كان فاضلًا، مع عدمِ إهمالِ المحفوظِ؛ حتى لا يُنسى، وهكذا يَنزِلُ الوحيُ، وهذا مِن الحِكْمةِ التي يجبُ أنْ يَسلُكَها العالِمُ في إصلاحِه، فيَنظُرُ إلى جهتَيْنِ:
الأُولى: أنْ ينظُرَ إلى مواضِعِ بُعْدِ الناسِ عن الحقِّ وقُرْبِهم منه، فيُقرِّبَ البعيدَ حتى لا يُفرِّطَ، ويَحفَظَ القريبَ حتى يَثبُتَ فلا يَغْلُوَ.
الثانيةُ: أنْ ينظُرَ إلى منازِلِ الأحكامِ مِن الشريعةِ ومراتِبِها منها؛ حتى لا يُصلِحَ بالتشهِّي، أو بما يُحِبُّهُ الناسُ، فيَترُكَ المنهيَّاتِ التي يُحِبُّها الناسُ إلى المنهيَّاتِ التي لا يُحِبُّونَها، فيَظُنَّ أنَّه حَفِظَ الشريعةَ بانشغالِه بما هو محفوظٌ مِن غيرِه، ويَتْرُكَ المُهْمَلَ المُضَيَّعَ مِن حدودِ اللهِ تهيبًا للناسِ.
وقولُه تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾، المرادُ بالنِّكاحِ هنا العَقْدُ، فيحرُمُ العقدُ على زوجةِ الأبِ ولو لم تُوطَأُ، وهذا ظاهرُ الآيةِ؛ لأنَّ الآيةَ وما بعدَها لبيانِ المحرَّماتِ نكاحًا لا سفاحًا؛ فالآيةُ في سباقِ بيانِ العقودِ؛ فاللهُ لمَّا أطلَقَ في أوَّلِ السورةِ حِلَّ النِّكاحِ مِن النِّساء، وقيَّدَ ذلك بالعدَدِ في قولِه: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣]، احتاجَ إلى التقييدِ بالوصفِ مع العددِ؛ حتى لا يُفهَمَ الحِلُّ