وكلَّما كان أثرُ النصرِ والهزيمةِ عظيمًا على المُسلِمينَ، كان الفِرارُ أشدَّ وأعظَمَ إثمًا؛ فإنَّ في الفرارِ والتولِّي يومَ الزحفِ كسرًا لِهَيْبةِ المؤمنِينَ، وإضعافًا لأَتباعِهمٍ، وتسليطًا للأُممِ عليهم، وهذه الآيةُ نزَلتْ يومَ بَدْرٍ؛ لأنَّه يومٌ عظيمٌ، وفرْقانٌ كبيرٌ بينَ الحقِّ والباطل، فجاء التشديدُ فيه أشَدَّ مِن غيرِه، ولمَّا كان يومُ أُحُدٍ خفَّفَ اللهُ في وعيدِه وتهديدِه، وذكَرَ عَفوَهُ وصَفحَهُ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٥٥]، ولمَّا كان يومُ حُنَيْنٍ، وذكَرَ إدبارَ بعضِ المُسلِمينَ، قال: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥]، قال بعدَ ذلك: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة: ٢٧].
خَصُوصيَّةُ بَدْرٍ وَعِظَمُهَا:
وآيةُ البابِ نزَلتْ في بدرٍ، وقد اختلَفَ السلفُ: هل هي عامَّةٌ لكلِّ غزوةٍ، أو هي لبَدرٍ خاصَّةً؟ على قولَيْنِ:
فمِن المفسِّرينَ مَن قال: إنَّ الوعيدَ في الآيةِ خاصٌّ بالفِرارِ يومَ بدرٍ؛ لأنَّه ليس لهم تركُ رسولِ اللهِ ﷺ وحدَهُ؛ وبهذا قال الحسنُ البصريُّ والضحَّاكُ، ولم يَرَوُا الفِرارَ بعدَ ذلك كبيرةً (١).
ومنهم -وهم الأكثرُ-: على عمومِ الحُكْم، وإنَّما الخاصُّ في بدرٍ أنه لا إمامَ للمؤمنينَ إلَّا رسولُ اللهِ ﷺ، ولا جماعةَ إلَّا جماعتُه، فالفارُّ إلى غيرِهم لا فئةَ له، ومع كثرةِ المؤمنينَ وفئاتِهم بعدَ ذلك وتعدُّدِ