للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال بعضُ المفسِّرينَ - كالحسَنِ، وأبي العاليةِ، وقتادةَ، والرَّبِيعِ بنِ أنسٍ -: "إنَّ المرادَ بذلك المشرِقُ قِبْلةُ النصارَى، والمغرِبُ قِبْلةُ اليهودِ".

قال أبو العاليةِ: "كانتِ اليهودُ تُقبِلُ قِبَلَ المغرِبِ، وكانتِ النصارَى تُقبِلُ قِبَلَ المشرِقِ" (١).

وروى عبدُ الرزَّاقِ - وعنه ابنُ جريرٍ - عن مَعْمَرٍ، عن قَتَادةَ؛ قال: كانتِ اليهودُ تصلِّي قِبَلَ المغرِبِ، والنصارى تصلِّي قِبَلَ المشرِقِ، فنزَلَتْ: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ (٢).

ونفيُ الِبرِّ عن استقبالِ الجهاتِ كلِّها ومنها الكَعْبةُ، إنَّما هو نفيٌ لاستقبالٍ غيرِ مقترِنٍ بأسبابِ التوجيهِ مِن اللهِ؛ كالإيمانِ باللهِ ورُسُلِهِ، فذاتُ الاستقبالِ متجرِّدًا عن الإيمانِ ليسِ بِرًّا.

وقد جمَعَ اللهُ في هذه الآيةِ جميعَ أنواعِ البِرِّ في العباداتِ: العبادةِ القلبيَّةِ، وهي الإيمانُ: قولُ القلبِ وعملُه، والعبادةِ اللسانِيَّةِ، وهي فعلُ اللسانِ، وهي لازمُ الأولِ، والعبادةِ البدنيَّةِ؛ كالصلاةِ، والعبادةِ الماليةِ، وهي النفقةُ.

مِن ضلالِ الأُممِ جهلُ الأولويَّات:

وإنَّما ضلَّ أهلُ الكتابِ بجهلِهم بالأولويَّاتِ في الدِّينِ، وهكذا تَضِلُّ الأممُ إذا كان لدَيْها دِينٌ أو قانونٌ، فتَضَعُ الأصولَ مكانَ الفروعِ، والعكسَ، وتقدِّمُ وتؤخِّرُ بالهَوَى، والنفسُ إذا أحبَّتْ شيئًا، عظَّمَتْهُ والْتمَسَتْ ما يعضُدُهُ مِن الأدلةِ؛ حتى يتضخَّمَ عملُها في نفسِها فتَرَى أنَّها أدرَكتْ كلَّ الخيرِ، والحقيقةُ أنَّها لم تتجاوَزْ قَدْرَهُ المعتبَرَ إلا وَهْمًا في نفسِها.


(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (١/ ٢٨٧)
(٢) "تفسير الطبري" (٣/ ٧٥ - ٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>