للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى مكةَ، ضاقَ ذلك عليهم، وعلى اليهودِ خاصَّةٌ، ورأَوْا أنَّهم كانوا على شيءٍ مِن الحقِّ والبِرِّ، فانحرَفُوا عنه.

و"البِرُّ": هو شدةُ الإحسانِ، والصِّدْقُ في إصابةِ الحقِّ (١).

وهذه الآيةُ خطابٌ لأهلِ الكتابِ وللذين آمَنُوا: أنَّ الجهةَ التي يوجِّهُ اللهُ إليها ليست بِرًّا لِمَنْ لا يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، ويقومُ بأعمالِ البِرِّ والعبادةِ، وقولُ اللَّهِ تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾؛ أيْ: ليستِ العِبرةُ بالجهاتِ، فهدا فرعٌ عن الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخِرِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ والنبيِّينَ، ومَن تمسَّكَ بالجهةِ فقطْ وجعلَها علَمًا على البِرِّ ولو كفَرَ الإنسانُ، فهدا مخطِئٌ.

روى ابنُ جريرٍ، عن حَجَّاجٍ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن ابنِ عباسٍ؛ قال: هذه الآيةُ نزَلَتْ بالمدينةِ: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾؛ يعني: الصلاةَ؛ يقولُ: ليس الِبرَّ أنْ تُصَلُّوا ولا تَعمَلُوا غيرَ ذلك (٢).

روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، ولكنَّ البِرَّ ما ثبَتَ في القلوبِ مِنْ طاعةِ اللهِ (٣).

فاللهُ تعالى أرادَ بالوجيهِ إلى الكعبةِ بدلًا مِن بيتِ المَقْدِسِ النظرَ في الامتثالِ لأمرِهِ ومقدارِ الإيمانِ به؛ وهذا نظيرُ قولِه تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: ٣٧]، فالله أمَرَ بالنَّحْرِ له، والمرادُ مِن ذلك: ظهورُ التَّقْوَى والامتثالِ.

وإنَّما ذكَرَ اللهُ المشرقَ والمغرِبَ؛ لأنَّهما أشهَرُ الجهاتِ ذِكْرًا، وأراد بذلك: عمومَ الجهاتِ.


(١) ينظر: "تهذيب اللغة" (١٥/ ١٣٨).
(٢) "تفسير الطبري" (٣/ ٧٥).
(٣) "تفسير الطبري" (٣/ ٧٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>