أمَّا العملُ، فإِنْ مُنِعَ المسلمُ مِن إظهارِه - كرَفعِ الأذان، وبِناءِ المساجدِ - وجَبَ عَلَيْهِ الهِجْرةُ إلى بلدِ يُظهرُ فيه شرائعَ دِينِه، ولو كان البلدُ الذي يُهاجِرُ ممن أهلُهُ مسلِمُونَ تَسلَّطَ عليهم مَن يمنَعُهُمْ مِن إظهارِ دِينِهم، والذي يُهاجِرُ إليه أهلُه كافرونَ، والهجرةُ لأجلِ إظهارِ الشرائعِ أَوْجَبَ مِن الهِجْرةُ لأجلِ مُفارَقةِ بلدِ الكافِرِينَ.
وأمَّا الهِجْرةُ لأجلِ البلَد، لا لأجلِ إظهارِ الشرائع، فهو أن يُهاجِرَ مِن بلدٍ كافرٍ يُظهِرُ فيه دينَهُ وشرائعَهُ إلى بلدٍ مسلمٍ يُظهِرُ فيه دينَهُ وشرائعَهُ؛ لأنَّ العِلَّةَ الأقامةُ بينَ ظَهْرَانَيْهُمْ.
وهجرةُ الحبشةِ الأُولى والثانيةُ لأجلِ العَمَلِ وإظهارِ الدِّين، لا لأجلِ البلدِ؛ فلم تكُنِ الحبشةُ بلدَ إسلام، وهجرةُ المدينةِ لأجلِ العملِ والبلَدِ معًا، والهجْرةُ لحفظِ العملِ وإقامتِهِ أعظَمُ مِنَ الهجرةِ لأجلِ الأرضِ والبَلَدِ؛ لأنَّ البَلَدَ ولو كان فاضلًا - كمَكَّةَ والمدينةِ والمسجدِ الأقصى - لا يَلزَمُ منه القدْرةُ عَلَى إظهارِ العملِ؛ فمَنْ قدَرَ عَلَى إظهارِ دينِه، أقام، ومَن لمْ يَقدِرْ، هاجَرَ ولو إلى بلدِ مفضولٍ؛ لأنَّ فضلَ الأعمالِ أعظَمُ مِن فضلِ البُلْدان، وأثَرَ الأعمالِ عَلَى أصحابِها أعظَمُ مِن أثرِ البُلْدانِ عليهم.
أحوالُ وجوبِ الهجرةِ وتحريمِها:
ويَختلِفُ الفقهاءُي وجوبِ الهجْرةِ مِن بلدِ الكفر، مع القدرةِ عَلَى إقامةِ الدِّينِ وإظهارِ الشرائعِ فيه، إلَّا أنَّ ثَمَّةَ صُوَرًا لا يَخْتَلِفونَ في وجوبِ الهجرةِ فبها ولو أُقيمَتِ الشرائعُ، وصُوَرًا لا يَختلِفونَ في جوازِ الإقامةِ في بلدِ الكفرِ فيها، أو استحبابِ ذلك، وصورًا لا يَختلِفونَ في تحريمِ الهجرةِ فيها:
أمَّا ما لا يُخْتلَفُ في وجوبِ الهجرةِ فيها مِن بلدِ الكفرِ ولو أُقيمَتِ الشرائعُ فيها: فذلك زمنَ الحربِ بينَ المُسلِمِينَ والكافِرِينَ، فلا يجوزُ