ولا يَختلِفونَ في وجوبِ الهجرةِ عندَ عدمِ القُدْرةِ عَلَى إقامةِ الدِّينِ وشرائعِهِ اللازمةِ والمتعدِّيَةِ؛ لازمةٍ كالذِّكْرِ والصلاةِ والصوم، ومتعدِّيةٍ كالزَّكَاةِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عنِ المنكرِ ودَعْوةِ الناسِ إلى التوحيدِ والسُّنَّةِ، وكذلك إقامةُ أحكامِ الدِّينِ وشرائعِهِ الظاهرةِ؛ كَبِنَاءِ المساجِد، وصلاةِ الجماعاتِ والأذانِ لها، والحجاب، وإعفاءِ اللِّحى، وكذلك الشرائعُ الباطنةُ التي إنْ أُقيمَتِ الظاهرةُ، لزِمَ قيامُ الباطنةِ مِن بابِ أَوْلى.
وأمَّا ما لا يُختلَفُ في جَوازِه أو مشروعيَّتِه: فهو لِمَن أقامَ في بلدِ الكفرِ لدَعْوَتِهم؛ أُسوةً بالأنبياء، ولو أطالَ البقاءَ، فإن اللهَ لم يأمُرْ نبيَّه ﷺ بالهجرة إلَّا لمَّا منَعُوهُ مِن إظهارِ ديِنِه ودعوتِهِ وشرائعِ ربِّه، وهكذا الأنبياءُ مِن قَبْلَهِ لم يُغادِروا أرضَ قومِهم إلا كُرْهًا أو خَوْفًا مِن عذابِهم الموعودِ.
وأمَّا ما لا يُختلفُ في تحريمِه: فالهجرةُ مِن بلدِ الإسلامِ إلى بلدِ الكفرِ الذي لا تُظهَرُ فيه الشرائعُ بل يُحارَبُ فيه الإسلامُ، ولو كان في ذلك حِفْظٌ للدُّنيا، فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يُهاجِرَ مِن بلدِ الإسلامِ ولو ظُلِمَ فيها في دُنْياهُ، إلى بلدِ الكفرِ التي لا يُظهِرُ فيها دينَهُ ولكنْ تُحفَظُ دُنياه؛ لأنَّه لا يجوزُ حِفظُ الدُّنيا وإضاعةُ الدِّينِ؛ فإِنَّ اللهَ لم يُوحِبِ الهجرةَ عَلَى نبيِّه والمؤمنينَ إلّا وتَبِعَهَا مِن ضياعِ دُنْياهُم وتَرْكِها - مِن مالٍ وزوجةٍ وولَدٍ ودارٍ وأرضٍ - شيءٌ كثيرٌ؛ فلا يُعتبَرُ حِفظُ الدُّنيا معَ ضياعِ الدِّينِ شيئًا.
وأمَّا مَن ظُلِمَ وقُهِرَ مِن حاكمٍ طاغٍ مُسلِمٍ تسلَّطَ عَلَى المُسلِمِينَ، وأرادَهُ عَلَى دينِهِ أو عِرْضِهِ أو نفسِه، فأرادَ الهِجْرةَ إلى بلَدِ كفرٍ يَحفَظُ دُنياهُ ويُقيمُ ديَنَهُ عندَ تعَذُّرِ بلدِ مسلِمٍ - فيجوز له ذَلكَ كما عزَمَ الزهريُّ عَلَى الهجرةِ إلى أرضِ الرومِ هربًا مِن الوليد بنِ يزيدَ؛ بشرطِ أن يكونَ