حلالَه ويحرِّمُ حرامَه، قال: ولو كان كذلك، ما نَسِيَ النبيُّ شيئًا منه؛ قال اللَّهُ: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: ٦ - ٧]، وقد نَسِيَ رسولُ اللَّهِ منه أشياءَ، وقال:(ذَكِّرَني هَذَا آيَةً أُنْسِيتُهَا) " (١).
وحمَل أبو يوسفَ معنى النِّسيانِ الواردِ في وعيدِ نَاسِي القرآنِ: على نِسيانِ قراءتِه من المصحفِ، فيَنْسَى عِلمَ القراءةِ وحروفَ العربِ.
النوعُ الثاني من الهجرِ: هجرُ تدبُّرِ مَعانيهِ وأحكامِه:
والمقصودُ مِن إنزالِ القرآنِ: تدبُّرُه وتأمُّلُه للعملِ بما فيه، ومَنْ شغَلَتْه حروفُ القرآنِ عن حدودِهِ فضَيَّعَها، كان ذلك أظهَرَ القوادحِ في نِيَّتِهِ وقصدِه، وأنَّه يطلُبُه لغيرِ اللَّهِ، ومَن عَمِلَ بالقرآنِ ولم يَعرِف حروفَهُ خيرٌ ممَّن يُقِيمُ الحروفَ وهو مضيِّعٌ للحدودِ.
وقراءةُ القرآنِ مع عدمِ تدبُّرٍ مِن صفاتِ المُنافِقينَ؛ كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، وتدبرُ القرآنِ يفتحُ القلبَ للحقِّ ويُرقِّقُهُ للاتِّباعِ، وعدمُ التدبُّرِ عَلَامةٌ على الأعراضِ، ولا يُحرَمُ عبد تدبُّرَ القرآنِ إلَّا بذنبٍ، فيَقْسُو قلبُه به، ثمَّ يُعرِضُ عنه، يكونُ ثقيلًا عليه؛ قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤].
النوعُ الثالثُ: هجرُ العملِ بما فيه مِن أوامرَ وأحكامِ:
وهو أعظَمُها وأشَدُّها؛ لأنَّ المقصودَ مِن التلاوة والقراءةِ العملُ، فقد يَقْرَأُ القارئُ القرآنَ ولا يعملُ به، وقد يتدبَّرُ مَعانِيَهُ ويعرِفُ أحكامَهُ ويُعرِضُ عنها، وكلَّما كان الإنسان بالقرآنِ أعلَمَ، كان التكليفُ عليه أشَدَّ، والإعراضُ منه أكبَرَ؛ فإنَّما يُؤاخَذُ العبدُ بتركِ ما عَلِمَ، لا بتركِ ما لم يَعلَم.