المُتخلِّفُ عن جِهادٍ متعيِّنٍ بلا عذرٍ؛ وذلك في قولِهِ تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢]؛ أي: يُبَطِّئ غيرَهُ ويُثَبِّطُهُ مع تخلفِه، وسبب تخلفِهِ عن داعِي النفيرِ بيَّنَهُ الله في قولِهِ: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٧٢]؛ وذلك خشيةَ نقص الدُّنيا؛ إمَّا نقصُ الأمنِ أو النفسِ أو الثمرات، أو فقدُ الأهلِ والزَّوجات، أو فقدُها جميعًا؛ ولهذا يرى تَركَ الشهادةِ نِعمةً، والأعظمُ: أَنَّه ينسب هذه النعمةَ إلى اللهِ: ﴿قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٧٢]؛ فقد انتكَسَ المعنى لانتكاسِ العلم، وانتكس العِلمُ لانتكاسِ الإيمانِ.
أصلُ النفاق:
ويُظهِرُ هذا - وهو: أن التعلُّقَ بالدُّنيا وكُرهَ الجهاد، هو أصلُ النفاقِ - الآيةُ التي تَلِيها؛ لأنهم بها يَحمدون الجهادَ إن كان به نصرٌ وظَفَرٌ، وبها يَذُمُّونَهُ إنْ كان به هزيمةٌ وقتلٌ، وتختلِف عداواتُهُمْ باختلافِ منافِعِهِمْ ومصالِحِهِم، لا باختلافِ مبادئِهم؛ لأنَّ مبادئَهم على الدُّنيا لا على الدينِ؛ قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٧٣].
تعامُل النبيِّ ﷺ مع المنافقين:
وذكَرَ بعضُ التابِعينَ أنَّ المُخاطَبَ بقولِهِ: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢] هو عبدُ اللهِ بنُ أبَيٍّ، وسواءٌ كان هو أو غيرَه، ففي ذلك أن النَّبيَّ ﷺ لم يُعَزِّرْهُ على فِعلِه؛ لأنَّه يُظهِر التأولَ، لا المُعارضةَ للمَقصَدِ والغايةِ مِن الجِهادِ؛ وإنَّما يُظهِرُ عدَمَ الحاجةِ والكفايةَ، وأنَّ الضرَرَ أكبَرُ مِن النفعِ، فهو يزعم أنَّه يخالِفُهم سياسةً، لا وَلَاءً للكفرِ وبرَاءً مِن الإسلامِ؛ ولذا كان النَّبيُّ ﷺ لا يُسَمِّيهِ، وهكذا أسلوبُ القرآنِ؛ لأنّ