ولكنِ الذي لا خلافَ فيه: أنَّ اللهَ لا ينصُرُ أحدًا ولو كان نبيًّا مِن أنبيائِهِ إلَّا بسببٍ كونيٍّ ولو كان يسيرًا، وهذا مقتضَى إحكامِ الكونِ وعدمِ عشوائيَّته ودَوَرَانهِ في فَلَكٍ سببيٍّ دقيقٍ لا يخرُجُ عنه؛ ولهذا لم يَفلِقِ الله لموسى البحرَ إلَّا بضربِ العَصَا، واللهُ قادرٌ على فَلقِهِ بلا عَصَا، ولم يُسقِطِ التمرَ على مريمَ إلَّا بِهَزِّ جِذْعِ النخلة، وهو قادرٌ على أنْ يُدْيِنَهُ بلا هَزٍّ، وسدَّدَ الله رَميَ النبيِّ محمدٍ ﷺ فلم يخطِئ: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧]، واللهُ قادرٌ على هزيمتِهم بلا رميٍ، ولكنَّ الأسبابَ لا بُدَّ مِن وجودِها، وربّما تَدِقُّ جِدًّا حتَّى يظُنَّ الإنسَانُ في الدنيا أن لا وجودَ لها في حادثةٍ بعينها، وهي موجودةٌ؛ لكنّها خفيةٌ.
التلازُم بين أسبابِ النصر الشرعية والكونية:
وإذا قوِيَتِ الأسبابُ الشرعيةُ، عوَّضَ اللهُ بها ضَعفَ الأسبابِ الكونية، ولكنْ لا تُغني الأسباب الشرعية ولو اجتمعت، عن الأسبابِ الكونيةِ إذا انتفَت؛ فإن حدوث الحوادث في الكون بلا أسبابها يقدَحُ في إحكامِ الكون، وقد يغترُّ النَّاسُ بمَن يَجري على يديه ذلك مِن الأولياءِ ويظنُّونَهم آلهةً، فلا يُقَدِّرُ الحوادثَ بلا سببٍ إلَّا موجِدُها بعدَ العدَم، وهو اللهُ.
ولمَّا كان الذي يباشِرُ الحوادِثَ هم الخَلق، أمَرَهُمُ الله بالأخذِ بالأسبابِ التي أوجَدَها شرعيةً وكونيةً، فإن ضعفت الأسباب الكونيةُ، أكثرُوا مِن الأسبابِ الشَّرعية؛ لِيُعوِّضَهم اللهُ عنها؛ لِيحدِثَ اللهُ أسبابًا كونيَّةً أضعَفَ بالأخذِ وأيسَرَ بالأمكانِ ولو كانتْ خفيةً لطيفةً تؤثِّر أعظَمَ مِن الأسباب الظاهرة، كما كان النَّبيُّ ﷺ يُكثرُ مِن الدعاء، ويُلِحُّ في الشدائدِ بالدعاءِ؛ كما في أحُدٍ وبَدرٍ والأحزابِ بالدعاءِ يستجلبُ عونَ اللهِ وتسديدَهُ ونَصرَهُ؛ لهذا ما مِن نبيٍّ إلَّا وأخَذَ بالأسبابِ الشرعيةِ والكونيةِ للنصرِ جميعًا.