للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي قولِه: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} استحبابُ العفوِ عن الزَّلَّاتِ، وأحَقُّ الناسِ بالعفوِ أقرَبُهم؛ كالوالدَيْنِ والأبناء، والإخوةِ والزوجاتِ، ومِثْلُهم العَفْوُ عن الخادمِ؛ لأنَّ كثرةَ القُرْبِ والمُخالَطةِ تُؤدِّي إلى كثرةِ الأخطاءِ في حقِّ الإنسانِ؛ فالناسُ يُخْطِئُونَ، ولكنْ لا يُشاهِدُ خطَأَهم ويَتأذَّى منه إلا مَن خالَطَهم، والبعيدُ لا يَرى الخطأَ إلا بمقدارِ مُخَالَطَتِه، ثمَّ إنَّ الناسَ يَقْوَوْنَ على التصنُّعِ والتحفُّظِ مِن الخطأِ مع البعيد، ولا يَقْوَوْنَ مع القريبِ؛ لهذا كان العفوُ عن خطأِ المُخالِطِ والجليسِ أعظَمَ مِن العفوِ عن خطأِ غيرِه؛ ولذا جاءَ في "سُنَنِ أبي داودَ" و"الترمذيِّ"؛ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ؛ قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله، كم نعفُو عن الخادمِ؟ فصَمَتَ، ثمَّ أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلمَّا كان في الثالثة، قال: (اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً) (١).

وقيل: إنَّ هذه الآيةَ نزَلَتْ في العفوِ عن الخادمِ والمملوكِ؛ روى ابنُ المُنذِرِ عن أبي جعفرٍ، عن ربيعِ بنِ أنسٍ؛ في قولِ اللَّهِ - جلَّ ثناؤُه -: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}؛ قال: "المملوكِينَ" (٢).

حدودُ العفوِ وكظمِ الغيظِ:

والشريعةُ تَستحِبُّ العفوَ وكَظْمَ الغيظِ ما كان بمقدورِ الناسِ وفي طاقتِهم ووُسْعِهم، وما يُعجَزُ عن تحمُّلِه؛ فيُستحَبُّ الانتصارُ للنفسِ بالعَدْلِ، وطلبُ الإنصافِ بالحقِّ؛ ففي "المسنَدِ" وعندَ "الترمذيِّ" وغيرِه؛ مِن حديثِ حُذيفةَ؛ قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ


(١) أخرجه أحمد (٥٨٩٩) (٢/ ١١١)، وأبو داود (٥١٦٤) (٤/ ٣٤١)، والترمذي (١٩٤٩) (٤/ ٣٣٦).
(٢) "تفسير ابن المنذر" (١/ ٣٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>