وفيه: تغليب النبيِّ ﷺ لمصلحةِ تركِهم؛ لأنهم لم يُظهِرُوا العداوةَ ويعلِنُوها؛ وإنما كان عملُهم خُفيَةً، وعداوةُ العلانيةِ أظهَرُ في الانتصارِ والصَّدِّ من عداوةِ الخفاءِ؛ فإنَّ عداوةَ الخفاءِ تكونُ مِن أفرادٍ، لا مِن الجميع، ولوأُخِذَ الجميع بعداوةِ البعضِ في الخفاء، لَقَدَرَ أهلُ عداوة الخفاءِ على إنكارِها وجحدِها واتهامِ المُسلِمينَ بالتربصِ بهم وظلمِهم، وقد يَنطلي ذلك على قومِهم وكثيرِ مِن المسلِمينَ، فينشق صفهم ويَجِدُ المُنافِقونَ مَدخَلا لقولِهم وآذانا تَسمعُ لهم؛ ولذا تحملَ النبي ﷺ أكثَرَ عداوة الخفاءِ مِن اليهودِ والمنافِقينَ؛ لِمَا تؤولُ إليه ممَّا سبَقَ وغيرِه.
شهادة الخُصُومِ:
وفي هذه الآيةِ: إشارة إلى شهادةِ الخصوم، ولكنها هنا في سياقِ الإِقرارِ لهم بحقِّهم، وألا تكونَ العداوةُ مانِعة مِن إنصافِهم، وإعطائهم حقَّهم.
ولا خلاف عندَ العلماءِ أن مَن شَهِدَ لخَصمِهِ بحقِّه، وأقَرَّ له به: أنه إقرار صحيح؛ لأنه معاكِس لِلظنةِ والتُّهَمَةِ فيه، ومِثلُهُ: مَن شَهِدَ لخَصمِهِ بحق له عندَ أحدِ مِن الناسِ وليس بين الشاهدِ وبينَ الآخَرِ خصومة؛ لانتِفاءِ التهمةِ كذلك؛ وإنما ثمةَ خلاف يسير في حدودِ ما يشهَدُ عليه.
انتفاء التهمةِ في الشهادةِ:
وتَنتفي التهمة غالبًا عندَ شهادةِ الولدِ على والدِه والعكسُ، والأولادِ والإخوةِ فيما بينَهم، فضلا عما كان أبعَدَ مِن ذلك مِن القرابات، وتقدَّمَ تفصيلُ شيءٍ مِن ذلك في سورةِ النساءِ عندَ قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [١٣٥]،