للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وروى عطاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾؛ قال: "أقرَبُهما للتَّقْوى الذي يَعفو" (١).

والمرادُ بعفوِ الزوجِ: هو إسقاطُ نِصفِهِ مِن الذي فرَضَ لها، فيدَعُ المهرَ لها كامِلًا، وعَفْوُ الزَّوْجةِ: بإسقاطِ نصفِها لزوجِها.

والأمرُ فيها حَثٌّ على المسابَقةِ للمسامَحةِ والعفوِ، وهِبَةُ الحقِّ للآخَرِ أَطْيَبُ للنفسِ وأكسَرُ للطمع، وأجلَبُ لأَنْ يَستحييَ الطَّرَفُ الآخَرُ مِن كَرَمِ صاحبِه عليه، فلا يذكرُهُ إلَّا بخيرٍ، ثمَّ إنَّ مفارَقةَ الأزواجِ في مثلِ هذه الحالِ - أيْ: قبلَ المَسِّ - لها أثرُ عليهِما، فيتَدافَعانِ اللومَ والعَتْبَ؛ كلٌّ على صاحبِه، وإنِ افتَرَقَا، دعَتِ النفسُ إلى ذِكْرِ الآخَرِ بالسُّوءِ، فعَفْوُ أحدِهما عن حقِّه للآخَرِ يَعقِدُ اللسانَ عن ذِكْرِ السُّوءِ، ويَدْعُوهَا إلى ذِكْرِ الجميلِ وسَتْرِ القبيحِ، فيَستقبِلُ كلُّ واحدٍ بعدَ صاحبِهِ أمرًا آخَرَ بلا سَخِيمةٍ أو غِلٍّ.

وقد جاءتِ الشريعةُ بإصلاحِ البواطنِ بينَ العبادِ، وتدبيرِ سرائرِهم على تشريع مُحكَمٍ، لو أتَى به العبادُ مِن كلِّ وجهٍ، لم يختلِفوا مِن أيِّ وجهٍ.

فضلُ العفوِ والمسامحةِ في الحقوقِ:

وقولُهُ: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾: حَثٌّ على العفوِ والصَّفْحِ، والمسارَعَةِ بوضعِ الحقِّ؛ لأنَّه أجمَعُ للقلبِ وأسلَمُ مِن الكدَرِ؛ فالنفوسُ أُشْرِبَتِ الشُّحَّ، وتَشَبَّعَتْ به لِحَظِّ نَفْسِها، والشرِيعةُ تَدفَعُ ذلك امتحانًا واختبارًا؛ لأنَّ إهمالَ الغريزةِ النفسيَّةِ بلا ضبطٍ لها: يُهدِرُها ويُطْغِيها، فتفسُدُ النفوسُ وتَهلِكُ.

وأكثرُ الناسِ عفوًا وصفحًا الأتقياءُ، وأقلُّهم عفوًا وصفحًا قُساةُ القلوبِ.


(١) "تفسير الطبري" (٤/ ٣٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>