المباحاتِ مَقَامٍ المكروهاتِ والمحرَّماتِ، لا لِذَاتِها؛ وإنَّما لتعظيمِهِمْ للَّهِ، ويُنزِلونَ في أنفُسِهم بعضَ المكروهاتِ مَقامَ المْوبِقاتِ؛ لِمَقَامِ الخالقِ، لا لِذَاتِ الفعلِ؛ فهم ينظُرونَ إلى عَظَمةِ مَن يُخالِفونَ أَمْرَه، لا إلى عَظَمةِ فِعْلِهم، وقد وصَفَ اللَّهُ إبراهيمَ بالصِّدِّيقيَّةِ، وهي مرتبةٌ فوقَ الصادقيَّةِ؛ كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٤١].
الأحوالُ التي جاء الترخيصُ فيها بالكَذِبِ للمَصْلَحةِ:
الأصلُ في الكذبِ: التحريمُ، ولا يجوزُ أن يتحوَّلَ الإنسانُ إلى الكذبِ إلَّا للضرورةِ بقبيودٍ، وكلُّ حقٍّ يستطيعُ أن يُحِقَّهُ الرجُلُ بالصِّدْقِ، فلا يَحِلُّ له الكذبُ فيه لإحقاقِه، وكلُّ باطلٍ يستطيعُ الرجُلُ دَفعَهُ بالحقِّ، فلا يجوزُ له الكذبُ فيه لدفعِه.
وقد جاء في السُّنَّةِ الترحيصُ بمواضعَ محدودةٍ مِن الكذبِ، وكلُّها لا تُلحِقُ ضررًا بأحدٍ، ولا تُذهِبُ حقًّا، ولا تَجلِبُ باطلًا؛ وإنَّا تُحِقُّ الحقَّ وتُبطِلُ الباطلَ، ولقِلَّتِها وضِيقِها وحضورِ القصدِ للَّهِ فيها؛ فإنها لا تَطبَعُ صاحِبَها على كذبٍ.
وقد صحَّ في مسلمٍ، عن رسولِ اللَّهِ ﵇؛ أنَّه قال:(لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصلِحُ بَينَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا)، وفيه أيضًا عن ابنِ شهابٍ؛ أنَّه لم يُرَخَّصْ في شيءٍ مِن الكذبِ إلَّا في ثلاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْن النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ المَرْأَةِ زَوْجَهَا (١).
وكلُّ ما لا يتحقَّقُ مِن المصالحِ إلَّا بالكذبِ، فاختُلِفَ في دخولِهِ في الأنواعِ الثلاثةِ؛ وذلك أنَّ كثيرًا مِن الفقهاءِ لم يَجعلوا الثلاثةَ في الحديثِ للحصرِ؛ وإنَّما للبيانِ الذي تجتمِعُ فيه عللُ المصالحِ الي يجوزُ فيها الكذبُ.