ولا يَحِلُّ الكذبُ لجلبِ كلِّ مصلحةٍ؛ فمنها المصالحُ الضعيفةُ الحقيرةُ التي لا تُساوِي عظَمَةَ الكذبِ، ولا يجوزُ الكذبُ في دفعِ كلِّ سوءٍ؛ لأنَّ مِن السوءِ ما هو ضعيفٌ لا يُساوي عظَمَةَ الكذبِ وقُبْحَهُ على صاحِبِه، والموازنةُ في ذلك لا تكونُ في كلِّ الأحوالِ سواءً؛ وإنَّما ينظُرُ فيها العالِمُ العارِفُ بتجرُّدٍ وصِدْقٍ، مُبعِدًا هواهُ، صادقًا مع اللَّهِ في قَصْدِه.
تخاصَمَ رجلانِ إلى داودَ وابنِهِ سُلَيْمانَ؛ أحدُهما صاحبُ غَنَمٍ، والآخَرُ صاحبُ حَرْثٍ، فدخَلَتِ الغنمُ على الحرثِ، فأكَلَتْهُ وأفسَدَتْه، فقضى داودُ أنَّ الغنمَ لصاحبِ الحرثِ بدلًا عمَّا أتلَفَت، وقضى سليمانُ أنَّ صاحبَ الغنمِ يأخُذُ الحرثَ ويُصلِحُهُ ويَسقِيهِ حتى يصيرَ كما كان عندَ أكلِه، والغنمُ تكونُ عندَ صاحبِ الحرثِ ينتفِعُ منها حتى ينتهِيَ صاحبُها مِن إصلاحِ الزرعِ ويُثمِرَ، ثمَّ يأخُذُ غَنَمَه.
وكان ذلك ليلًا؛ حيثُ قال تعالى: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾، والنَّفْشُ يكونُ في الليلِ، وبهذا قضى النبيُّ ﷺ في ناقةٍ لبَراءِ دخَلَتْ حائطَ قومٍ فأفَسدَتْهُ، فجعَلَ النبيُّ ﷺ على أهلِ المَواشي حِفْظَها بالليلِ، وعلى أهلِ الأموالِ حِفْظَها بالنهارِ؛ رواهُ أحمدُ وأبو داودَ (١).
وقد اختلَفَ العلماءُ في الضمانِ فيما أفسَدَتِ البهائمُ مِن المالِ، سواءٌ كان حَرْثًا أو متاعًا:
ذهَبَ مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ: إلى التفريقِ بينَ ما تُفسِدُهُ بالليلِ