ولذا قال ابنُ جَرِيرٍ:"أمَّا دُعَاؤُهُمْ إلى الصُّلْحِ ابتداءً، فغيرُ موجودٍ في القرآنِ"(١).
وقد نُهِيَ النبيُّ ﷺ عن الدعوةِ إلى الصلح في بعضِ الأحوالِ؛ وذلك في قولِهِ تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥]، وهذا يُنافي إطلاقَ الآيةِ في قولِه: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.
وحَمْلُ الآيةِ على معنى المصالَحةِ والمسالَمةِ في الحربِ: لا أعلمُ مَن قالَهُ مِن الصحابةِ والتابعينَ، وإنَّما هو قولٌ لبعضِ مَنْ جاء بعدَهم؛ فقد أشارَ إليه ابن جريرٍ، ولم يَنْسُبْهُ إلى أحدٍ، وقال به بعضُ المتأخِّرين.
مهادنةُ العدوِّ ومسالَمَتُهُ:
وعلى هذا المعنى - لو صَحَّ -: فليس المرادُ به الإطلاقَ قطعًا، فقد كان بينَ المؤمِنِينَ والمشرِكِينَ عهدُ سلامٍ في الحُدَيْبِيَةِ، واللهُ أمَرَ بقتالِهم عندَ عدمِ وفائِهم وعندَ نَقْضِهم للعهدِ وتربُّصِهم بالمؤمنينَ، ولكنْ لمَّا دخَلَ المؤمنونَ مكةَ مُعتَمِرِينَ، بَقيَ عهدُ الحُدَيْبِيَةِ على ما هو عليه، فوجَبَ على المؤمِنِينَ الالتزامُ به والدخولُ فيه كافَّةً عامَّتُهم وخاصَّتُهم؛ لأنَّهم يدٌ واحدةٌ على مَنْ سِوَاهُم.
وعلى هذا المعنى أيضًا - "السلمُ"؛ أيِ: المسالَمَةُ -: ففي الأمرِ بالعهدِ للجميعِ خاصَّةً وعامَّةً: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾؛ أيْ: كلُّ مؤمنٍ - دليلٌ على أنَّ العهدَ يُنقَضُ ولو مِن فئةٍ قليلةٍ مِن الطرَفَيْنِ ولو لم يَقَعْ مِن جميعِهم، ويَقَعُ مِن الواحدِ منهم النقضُ لو سكَتَ الباقونَ، أو ظهَرَ ما يبدو معه رضاهُمْ عليه أو إعانتُهُمْ له، أو نقَضَ وهو بين ظَهْرَانَيْهِمْ وترَكُوهُ وآوَوْهُ أو مدَحُوهُ أو لم يُعاقِبُوهُ مع القُدْرةِ على ذلك.