للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقيل: نُسِخَتْ بسورةِ براءةَ؛ فقد نسَخَتْ كلَّ مُوادَعةٍ.

وقيل: نَسَخَها قولُهُ: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [محمد: ٣٥]؛ حُكِيَ هذا عن ابنِ عبَّاسِ (١).

وأنكَرَ الطبريُّ القولَ بالنسخ، ومِثُلُهُ ابنُ كَثِيرِ (٢)، وغيُرُهما، وهو كذلك، حتى قال الطبريُّ في قولِ مَن قال بالنَّسْخِ: "لا دَلَالةَ عليه مِن كتابِ ولا سُنَّةٍ ولا فِطْرة عقلٍ (٣).

وذلك أنَّ الآيةَ التي جعَلَها قتادةُ ناسخةً هي في كفارِ قريشٍ ومَن في حُكْمِهم مِن الوثَنيِّينَ، وآيةُ براءةَ فيها قتالُ العدوِّ عندَ القُدْرةِ عليه، والمُهادَنةُ عندَ كَثْرتِه.

وقال أكثَرُ العلماءِ: إنَّها ليست بمنسوخةٍ، بل مُحكَمةٌ، وليس فيها إبطالُ القتال، ولا الأمرُ بمُطلَقِ المُسالَمةِ والمُهادَنةِ والمُوادَعة، وهي محمولةٌ على كلِّ مَعاني السَّلْمِ التي تصلُحُ للمُسلِمينَ وتُصلِحُ حالَ الكافرينَ: كانْ يَقبَلَ الكُفَّارُ الإسلامَ؛ فلا حاجةَ لقتالِهم؛ لأنَّ غايةَ الغاياتِ تحقَّقتْ؛ ولهذا فسَّرَ ابنُ إسحاقَ (السَّلْمِ) في الآيةِ بالإسلامِ (٤)، وإن طلَبَ الكفارُ أن يَدفَعُوا الجِزْيةَ ولا يرغَبونَ في القتال، فيُنزِلونَهم عليها كما في التوبةِ ويأتي، وإنْ رَغِبُوا في الهُدْنةِ والمُسالَمةِ إلى أمَدٍ وكان للمُسلِمينَ مصلحةٌ، فلهم فعلُ ذلك، كما فعَلَ النبيُّ في الحُدَيْبِيَةِ وغيرِها.

ومَن قال بإحكام الآية، لم يَجعَلْها أصلًا يُناقِضُ الجهادَ ويُعَطُلُه؛ فإنَّه لم يقُلْ بذلك أحدٌ؛ وإنَّما جعَلُوا القتالَ للمُعانِد، والسَّلْمَ لمَن تجوزُ مُصالَحَتُه.


(١) "تفسير القرطبي" (١٠/ ٦٣).
(٢) "تفسير ابن كثير" (٤/ ٨٤).
(٣) "تفسير الطبري" (١١/ ٢٥٤).
(٤) "تفسير الطبري" (١١/ ٢٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>