للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبهذا كان يَحُدُّ الإسرافَ السلفُ؛ كما روي عبيد الله بن حُميْد؛ قال: مَرَّ جدِّي على عمر بنِ الخطاب؛ وعليه بُرْدةٌ، فقال: بكم ابتعْتَ بُرْدَكَ هذا؟ قال: بستِّين دِرْهمًا، قال: كم مالُك؟ قال: ألفُ درهم؛ قال: فقام إليه بالدِّرَّة، فجعَلَ يضربُهُ ويقولُ: رأسُ مالِكَ ألفُ درهمٍ، وتبتاعُ ثوبًا بستِّين درهمًا؟ ! رأسُ مالك ألفُ درهمٍ وتباعُ ثوبًا بستينَ درهمًا؟ ! (١)

وكذلك فإنَّ حاجةَ الواحدِ مِن الناسِ إلى الانتفاعِ تختلفُ عن حاجةِ غيرِهِ مِن سلعةِ واحدة، فمَن يَشترِي بدرهمٍ شيئًا لا ينتفِعُ منه لِيَرْمِيَهَ أو يُهمِلَهُ - يُعَدُّ مُسرِفًا، ولكنَّ شراءَ غيرِهِ إنِ انتفَعَ مِن تلك السلعةِ ولو بأكثَرَ مِن درهمٍ جائزٌ، وقد كان بعضُ السلفِ يَعُدُّ شراءَ الإنسانِ لكلِّ ما يشتهيهِ سَرَفًا، كما قال عُمَرُ بن الخطَّاب: "كفى بالمرء سَرَفًا أنَّ يأكلَ كلَّ ما اشتهى! " (٢).

الجهةُ الثانيةُ: العينُ المنتفَعُ بها، إمَّا أن تكونَ حرامًا، وإمَّا أن تكونَ حلالًا؛ فكلُّ مالٍ يُنفَقُ في حرامٍ، فهو إسرافٌ ولو كان وزنَ بُرَّةٍ؛ ولذا يقولُ مجاهدُ بن جَبْرٍ: "لو أنفَقتَ مِثلَ أبي قُبَيسٍ ذهَبًا في طاعةِ الله، لم يكنْ إسرافًا، ولو أنفَقتَ صاعًا في معصيةِ الله، كان إسرافًا" (٣).

الجهةُ الثانيةُ: القيمةُ المبذولةُ: فكلُّ عينٍ مباحةٍ لها قيمةٌ؛ فمَنِ اشترَى ما لا قيمةَ له أو بالَغَ في قيمةِ ما قيمتُهُ حقيرةٌ؛ كمَنِ اشترَى الحَصَى والترابَ والعِظامَ، ولا انتفاعَ له به، فذلك إسرافٌ محرَّمٌ، ومِثلُهُ مَن يَشتري ما قيمتُهُ حقيرةٌ كدِرْهمِ وَيَشتريهِ بمئةِ دِينارٍ بقصدِ المباهاةِ والمُفاخَرةِ؛ فهذا محرَّمَ ولو كانتِ العينُ المُشتراةُ مباحةً، ولو كان له


(١) أخرجه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (١١١).
(٢) أخرجه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (١٠١)، وابن المبارك في "الزهد" (٢٦٦).
(٣) "تفسير الطبري" (١٧/ ٤٩٨)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٥/ ١٤٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>