وإنَّما حَرُمَ على العالِمِ والجاهلِ مُجالَسَةُ الحاكِمِ والإظهارُ له خلافَ ما يُبطِنُه؛ كما في حالِ المُنافِقينَ في قولِهِ: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ [النساء: ٨١]؛ لأنَّ الحاكِمَ يَسُوسُ الأُمَّةَ بالأمرِ والنهي، وإظهارُ الطاعةِ له وإخفاءُ زَلَّتِهِ عنه وكُرْهِ الرعيَّةِ له: يجعَلُهُ يَجْسُرُ على بعضِ الأوامرِ والنَّوَاهِي في السياسةِ والجِهَادِ والأموالِ، ويَظُنُّ أنَّه ثابتٌ بثباتِ المَحْكُومِينَ معه الذين يُنافِقُهُ علماؤها، فإنْ أمَرَهم بأمرٍ أو نَهَاهُم عن أمرٍ لا يُطِيقُونَهُ، فلرُبَّما فاجَؤُوهُ بالعِصْيانِ والتمرُّدِ والخروجِ، ولكنْ لو عَلِمَ منهم مقامَهُ فيهم في ميزانِ الحقِّ والباطلِ، عَرَفَ قَدْرَ ثباتِهِ فيهم وطاعتِهِمْ له، فأصلَحَ نفسَهُ واستصلَحَ غيرَهُ، ولم يأمُرْ بما لا يُطاقُ، ولم يَجسُرْ على فعلِ ما لا يُتابَعُ عليه، ؛ لأنَّه يَعرِفُ ضَعْفَ وَلاءِ رعيَّتِه، وإنْ عَرَفَ سببَ ضعفِ ولائِهِمُ، استصلَحَهُ وقَوَّمَهُ؛ لتَقْوَى شوكتُهُ فيهم بوَلَاءِ رعيَّتِهِ له، وقد روى الطَّبَرَانيُّ؛ مِن حديثِ مجاهدٍ: أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ﵁، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتُمْ وَأَبُو أُنَيْسٍ - يَعْنِي: الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ -؟ قَالَ: نَحْنُ وَهُوَ إِذَا لَقِينَاهُ، قُلْنَا لَهُ مَا تُحِبُّ، وَإِذَا وَلَّيْنَا عَنْهُ قُلْنَا غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَعُدُّ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ النِّفَاقِ (١).
وقد كان الضحَّاكُ بنُ قَيْسٍ أبو أُنَيْس واليًا على الكوفةِ ودِمَشْقَ، وأكثرُ ثورةِ الشعوبِ على الحُكَّامِ بسببِ تصنُّعِ علمائِهِم وعُرَفَائِهِم ونُقَبَائِهِم مع الحُكَّامِ، فيُبْدُونَ لهم مِن الرضا خلافَ ما يُخْفُونَ مِن السُّخْطِ، ومِن الحُبِّ خلَافَ ما يُخْفُونَ مِن الكُرْهِ، ومِن الطاعةِ خلافَ ما يُخْفُونَ مِن المعصيةِ؛ حتى يَحمِلَ ذلك الحُكَّامَ على الثقةِ بأنفُسِهِمْ وتوهُّمِ التمكُّن، فيأمُرُونَ ويَنْهَوْنَ وربَّما يَظلِمونَ ويَبْغُونَ؛ حتى يَرَوْا مِن العامَّةِ حقيقةَ ما يُخفِيهِ عنهم بطانتُهم.
(١) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٣٤٨٩) (١٢/ ٤٠٣).