وهذا اجتماعٌ قليلٌ أمَرَ بالإمارةِ فيهِ؛ فكيف بما هو أكثَرُ منه؟ ! وكلَّما كَثُرَ الناسُ وضَعُفَتِ الإمامةُ فيهم، وَهَنُوا؛ فالإمامُ يُقِيمُ الحدودَ، وينصُرُ المظلومَ، ويُهِيبُ مَنْ يتربَّصُ الفسادَ، وكثيرًا ما يَظُنُّ العامَّةُ أنَّ أَمْرَهُمْ مستقيمٌ تحتَ إمامٍ صالِحٍ، فيَظُنُّونَ أنَّ استقامةَ أمرِهِم لصلاحِهِم، فلا يَرَوْنَ لإمامِهِمْ حاجةً، فإذا زالَ الإمامُ، أفسَدَ بعضُهُمْ بعضًا، وقتَلَ بعضُهُمْ بَعضًا، وظهَرَتِ الأطماعُ ومكامِنُ الأهواءِ التي يَدفِنُها الإمامُ فيهم بِهيْبَتِهِ.
والجهادُ أحوَجُ إِلى الجماعةِ؛ لأنَّ مصلحتَهُ عامَّةٌ؛ نُصْرةً وعِزَّةً وتمكينًا، ومفسدتَهُ عامَّةٌ؛ خِذْلانًا وهَوَانًا وشَتَاتًا، تُحفَظُ بالجهادِ الضروريَّاتُ الخمسُ، وبفسادِهِ تَضِيعُ؛ لذا فالجهادُ موكولٌ إلى الإمامِ يرفَعُ رايتَهُ، ويسالِمُ ويعاهِدُ، ولا تتحقَّقُ مصالحُ الدِّينِ وتكتمِلُ مصالحُ الدُّنيا إلا بالإمامةِ والإجتماعِ عليها؛ فالناسُ بلا إمامٍ صالِحٍ كالجَسَدِ بلا رأسٍ صحيحٍ.
وإذا صحَّ الجهادُ وقامَ سببُهُ المشروعُ، فهل يَجِبُ في ذلك إذنُ الإمامِ؟ للعلماءِ في ذلك أقوالٌ ثلاثةٌ:
ذهَبَ الجمهورُ: إلى وجوبِهِ؛ وهو قولُ المالكيَّةِ والحنفيَّةِ، وقولٌ للحنابلةِ، وهو الأصحُّ إذا كان الإمامُ مِمَّنْ يُقِيمُ الجهادَ ويُعِدُّ له العُدَّةَ ولو تَرَبَّصَ وتَمَهَّلَ.
وذهَبَ الشافعيَّةُ: إلى الكراهةِ مع الجوازِ.
وذهَبَ الظاهريَّةُ: إلى الجوازِ بلا كراهةٍ.
وأصولُ العلماءِ تَتَّفِقُ على أنَّ مَنْ لا يُقِرُّ بشِرْعةِ الجهادِ أصلًا لا يُشتَرَطُ إذنُ الجهادِ منه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ بأصلٍ؛ فكيف يُؤتَمَنُ على فَرْعٍ؟ !