وقد اختلَفَ العلماء في اليمينِ التي يحرِّمُ بها الحالفُ على نفسِهِ مطعمًا وملبسًا ومسكنًا: هل تحرِّمُ فِعل المحلوف عليه، وتجب عليه بها الكفارةُ عندَ الحِنث، أو لا؟ على قولَينِ:
الأولُ: أنها لا تحرمُ الحلالَ، كما أنها لا تُحِلُّ الحرامَ، ولا يجب فيها كفارة، ورُوِيَ هذا عن ابن جُبير، وبه قال الشافعي، واستثنَى تحريم النساء؛ وذلك لظاهرِ الآية، وأن النبيَّ ﷺ لم يأمُرِ الصحابةُ الذين حلَفوا على تحريم الحلالِ على أنفسِهِم بالكَفَّارةِ.
الثاني: أن اليمينَ تحرُمُ الحلالَ كما أنَّها تُوجِبُهُ، لكنَّها لا تُحِل الحرامَ؛ لأن الحرامَ يجبُ فيه التركُ، والحلالَ لا يجبُ فيه الفِعلُ ولا التركُ؛ وإنَّما استوتْ أطرافُهُ فِعلًا وتركًا، فاليمينُ أكدت أحدَ الطرَفَيْن، وكلاهُما في الشريعةِ جائزُ الفِعلِ والترك، وتحريمُ الحلالِ ليس تشريعًا عامًا؛ وإنما خاص دل الدليلُ عليه وأنه يكونُ تحريمًا، كما في سورةِ التحريمِ؛ وهذا قولُ أحمدَ.
وعدمُ أمرِ النبيِّ ﷺ بالكفارة للصحابةِ الذين حرمُوا على أنفسهم اللحمَ والنِّكاحَ والنومَ: فيه نظر؛ فإن الآيةَ نزَلَت فيهم، وعقبها اللهُ بعدَ ذلك ببيان كَفارةِ اليمين، والحكم متعلق بهم ومَن شابَهَهم، ثم إنه لا فرق بين تحريم الحلالِ في النكاحِ وفي الطعامِ وغيرِه، ولما حرمَ النبي ﷺ على نفسِه، أنزِلَ عليه قولُه: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: ١]، ثم قال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢]؛ يعني بذلك الكفارةَ.