للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العملَ والبلاغَ؛ ولهذا فينبعي على مَن قصَدَ عِلمًا أنْ يَنظُرَ قبلَ سؤالِه إلى أمرَيْنِ:

الأولُ: العملُ؛ فإنْ كان مِن أهلِ العملِ بما عَلِمَ مِن العِلْمِ السابق، وكلَّما تعلَّمَ عَمِلَ، فإنَّ هذه أَمَارَةٌ على حُسْنِ قصدِه، وإنْ قَلَّ عملُهُ أو عُدِمَ مع كثرةِ سؤالِه، فهو يَستكثِرُ مِن حُجَجِ اللهِ عليه، والأَولى بمَن عَلِمَ شيئًا مِن العِلْمِ أنْ يعمَلَ به، وقد تتزاحَمُ العلومُ عليه، ويَستثقِلُ العملَ بكلِّ ما عَلِمَ، فلْيَعمَلْ بما عَلِمَ ولو مرَّةً؛ ليَنالَ بَرَكَةَ عِلْمِه، وقد جاء عن أحمدَ بنِ حنبلٍ: "ما كتبتُ حديثًا عن النبيِّ إلَّا وقد عَمِلْتُ به، حتى مَرَّ بي الحديثُ أنَّ النبيَّ احْتَجَمَ وأَعطى أبا طَيْبَةَ دينارًا، فأعطَيْتُ الحَجَّامَ دينارًا حينَ احتَجَمْتُ" (١).

والعاملُ الصادقُ يَعملُ بأَولى العِلْمِ وأَوْجَبِهِ عليه، فمَن أراد تعلُّمَ عِلْمٍ، فلْيَنظُرْ خلْفَهُ إلى ما وجَبَ عليه مِن أقرَبِ العِلْمِ الذي يَتْبَعُه، فإنْ كان مِنَ أهلِ العملِ به، فلْيتعلَّمْ ما بعدَه؛ فإنَّ العِلْمَ مراتبُ بحسَبِ التكليفِ.

الثاني: البلاغُ؛ وذلك أنَّ العملَ قد لا يُطيقُهُ كلُّ أحدٍ، فمِن العِلْمِ ما لا يَلحَقُ المكلَّفَ تكليفٌ به؛ كطالبِ العِلْمِ الفقيرِ في أحكامِ الزكاةِ، والعاجزِ في الحجِّ والجهاد، وغيرِ التاجِرِ في أحكامِ البيوعِ وغيرِها؛ فالبلاغُ لهذا العِلْمِ مِن مقاصدِ تعلُّمِه، والناسُ يختلِفونَ في مقامِهم في الناسِ، ولا يخلو أحدٌ الناسِ مِن القُدْرةِ على البلاغِ ولو لأقرَبِ الناسِ إليه، فيَنصَحُ ويأمُرُ ويَنهى ويُعلِّمُ ولو خادمًا، أو زوجةً وولدًا، أو جارًا وصاحبًا؛ ولذا قال : (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) (٢).

* * *


(١) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (١/ ١٤٤).
(٢) أخرجه البخاري (٣٤٦١) (٤/ ١٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>