للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في أوائلِ المئةِ الثالثةِ واشتهَرَ بعدَها، ولم يكنْ معروفًا في بُلْدانِ الإسلامِ التعبُّدُ به، ولا بالتصفيقِ والتصفير، ولا بالدُّفّ، ولا بصربِ القضيبِ.

ولمَّا ظهَرَ، أنكَرَهُ الأئمَّةُ مِن السلفِ، ولم يكنْ نهم مَن يعملُهُ، حتى كَثُرَ في الزُّهَّادِ المتصوِّفة، ثم كان في الصالحينَ، ثم اعتادَهُ بعضُ المتعلِّمِينَ، وقد أسنَدَ البيهقي في "مناقب الشافعيِّ" قولَهُ: "خَلَّفْتُ ببغدادَ شيئًا أحدَثَتْهُ الزَّنادقةُ يُسَمُّونَهُ التغبيرَ، يَصُدُّونَ به الناسَ عن القرآنِ" (١).

وتوسَّعَ الناسُ اليومَ في إنشادِ الأشعارِ حتى شابَهُوا أهلَ المعازفِ والطَّرَب، فيُسمُّونَها إنشادًا وحُدَاءً، وليستْ بحُدَاءٍ ولا إنشادٍ، وغرَّهُم في ذلك أنَّ الآلاتِ التي تُستعمَلُ فيها ليستْ معازفَ؛ وإنَّما مِن الأصواتِ الطبيعيَّةِ والتقنيةِ الحديثة، وهذا جهلٌ بأصولِ الشريعةِ التي لا تُفرِّقُ بينَ المُتماثِلات، والمعازفُ مِن الطبيعةِ؛ فهي مِن أغصانِ الشجرِ وأعوادِها، ومِن شَعَرِ بعضِ البهائمِ وجِلْدِها، وإنَّما اختلَفَتْ في طريقةِ إحراجِ الصوت، وأكثَرَ الناسُ منها حتى بلَغُوا حَدَّ التديُّنِ بها، واتُّخِذَتْ دعوةً للفُسَّاقِ والغافِلِينَ لها، وهذا مِن الصدِّ عن كلامِ اللهِ والتغنِّي به، وعن الوعظِ المشروع، ولا يُعلَمُ أنَّ فاسقًا وغافلًا صلَحَتْ حالُه بأناشيدِ الإطرابِ وآهاتِ الأحزانِ والأفراح، بل هي حرَفَتِ الصالحينَ إلى الغَفْلة، ولم تَجلِبِ الغافلينَ إلى الصلاحِ.

ومَن صلَحَتْ حالُهُ في الظاهرِ بتلك الأسباب، فغالبًا أنَّ باطنَهُ أجوَفُ مِن الإيمان، وقلَّما يثبُتُ، وربَّما يُظهِرُ مِن الصلاحِ ويُبطِنُ مِن ذنوبِ السَّرائرِ أشياءَ عظيمةً؛ لأنَّه لا يُثبِّتُ الإيمانَ في القلبِ إلَّا الوحيُ قرآنًا وسُنَّةً والوعظُ بهما، وبمِقْدارِ ما لدى الإنسانِ منهما يكونُ صلاحُهُ باطنًا، وبمِقدارِ نُقْصانِهما فما زاد مِن صلاحِ الإنسانِ الظاهرِ


(١) "مناقب الشافعي" (١/ ٢٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>