ونَصْرَ العدوِّ فيه متحقِّقٌ، فتحقيرُهُمْ كان لحَظَّ المشرِكِينَ، وهو تحقيرٌ في صورةِ استدراجِ؛ ليتمكَّنَ العدوُّ مِن المؤمنِينَ، فذلك لا يجوزُ ولو حَسُنَ قصدُ أميرِ الجندِ وقائدِهم.
ومَن رأى قوةَ الكافرينَ، وتيقَّنَ أنَّ فيهم قُوَّة وعُدَّةً وعَدَدًا مِثْلُهم لا يُنتصَرُ عليه ولو ثبَتَتِ الأقدامُ وقَوِيَتِ العزائُم فيجبُ عليه إخبارُ الجندِ بحقيقةِ ذلك، ولهم أن يَثبُتوا، ولو قُتِلوا فهم شُهَداءُ، ولهم أن يَنحازُوا أو يَتحرَّفُوا إلى فئةٍ مِن المؤمنِينَ.
الثاني: تحقيرٌ لأجلِ الثَّبات، واحتمالِ الغلَبةِ للمؤمنِينَ، فيُشرَعُ تحقيرُ عَدَدِ العدوِّ وعُدَّتِه؛ لِتَقْوَى عزائمُ المؤمنينَ، ويُربَطَ على قلوبِهم، وتثُبتَ أقدامُهم؛ فإنَّ ذلك يعوِّضُ ما يَفُوقُهم عدوُّهم به مِن العَدَدِ والعُدَّةِ؛ فالثابتُ الواحدُ قد يَغلِبُ عشَرةَ، وقد يَغلِبُ الثابثُ بعَصَاهُ عدوَّهُ ولو كان معه سَيْفٌ؛ فإنَّه إذا ضَعُفَ قلبُ الإنسان، لم يُحسِنْ تدبيرَ ما بيدَيْه، كما في القُدْسِ اليومَ: بقتُلُ المُسلم اليهوديَّ بحجرِ وسلاحُ اليهوديِّ بيدَيْه.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ دليلٌ على أنَّ بعضَ الخلافِ الذي يقعُ بينَ المُسلِمينَ في الثغورِ هو بسببِ الدُّنيا وحُبِّ السلامةِ فيها، وهذا وهُمْ في ثُغورٍ، فاللهُ بيَّنَ أنه سلَّمَ المؤمنينَ مِن النِّزاعِ والخلافِ بسببِ دَبِّ الخوفِ فيما بينَهم مِن أن يُغلَبوا، ولأجلِ ذلك تختلِفُ آراؤُهم وَينسحِبُ قومٌ ويَضطربُ آخَرونَ، ولو ثبَتَتْ عزائمُهم وقلوبُهم واحتقَرُوا عدوَّهم مع احتمالِ نصرِهم، لانتصَرُوا بنصرِ اللهِ لهم.
وفي قولِه تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، ذكَرَ الصدورَ ولم يذكُرِ اللهُ الأمورَ الظاهرةَ الماديَّةَ مِن عَدَدٍ وعُدَّةٍ؛ لأنَّ النصرَ بسلامةِ الصدر، وإنْ لم تصلُحِ القلوبُ والنفوسُ، لم تَنتفِعْ بقوَّتِها مهما بلَغَتْ.